عبد الغفار العطوي
صدرت للشاعر العراقي صفاء ذياب المجموعة الشعرية ( سلم قديم تآكلت أضلاعه ) من منشورات اتحاد الادباء و الكتاب في البصرة طبع في لبنان 2017 ملفتاً النظر في نصوصه كلها الى الحساسية التي يحملها كونه يؤشر جوانب عدة من التجاذب بين الشعر و الشاعر ، وهما قطبا التراسل بين القارئ المفترض و الحقيقي( الاول المعني بخاصية الشاعر ، أما الثاني فمن موروث الشعر ) لأننا نلمس التوجه القيمي في ذلك، في إن ثمة فصلا بينهما يؤدي نحو إيضاح مدى علاقة تلك الجوانب مع ماهية الشعر ووظيفة الشاعر كلاً على جهة باعتبارهما مفهومين متعارضين يستندان على ضرورة التبادل في الحيثيات ووسائل تصريف الرسائل عبر الشفرات، لأن اختلافهما أكيد في ظل عدم التجانس.
1- لا شك إن الشاعر صفاء ذياب قد مارس ضغطاً ملحوظا باتجاه توليد فكرة بقاء الشعر و فناء الشاعر ، لأن للشعر ماهية و للشاعر عرضا و ديمومة الاول أوضح من تشخص الثاني ، من هنا أخلص صفاء ذياب لماهية شعره و اركس قيامه الشعري باعتباره تقعيدا افتراضيا ، لنجد بيان ارساله بالأهمية التي وعاها في العنوانات أولاً و في مقاصدها ، في عتبة ( رجل من بولنزيه) التي لخص بها الشاعر مفهوم المساوقة بين الشعر و الشاعر ثانياً ، في إن الشعر يشبه الروح فهو نفخة وإن الشاعر قد لا يمسك بها بقوة فيموت.
حين مت
كانت هناك
بالقرب من مقبرتي حديقة ورد
ذات يوم
جرفني سيل إليها
فأزهرت
ولأن الشعر له المقدرة على إقصاء حاجات الإنسان بأكملها ، و العيش في ظل حيثيات الشاعر بينما الاخر يضمحل ، كانت فكرة لواذه في المكان ــ الزمان من أحد مبتكراته التي يطل بها على عالم الشاعر ، فيما سماه صفاء ذياب ( خارج المتن)و هو استشعار عرضي اراد به القول بعزلة الشعر عن تعاطي الشاعر به، برد الاخير في عنوان ( الطين أول المخلوقات)الى فنائه المحتوم ( أنا ابن الطين ، عرفت بأني اسلخ الطين من جسدي ، و ما كل هذه الارض سوى بضعة مني)ص97 و خلود الشعر في سرمديته ، و لعل خارج المتن الذي أثراه.
قول الشاعر بأن مرد الإنسان بما فيه الشاعر الى الطين ، ذلك الطين الذي يرسم حدود المكان ، لأن الطين مستمر ، فلولا استمراره لما بقيت مفردات كثيرة في اللغة السومرية من اساسيات اللغة العراقية الحية ص 101 ، بمعنى قدرة اللغة في احتواء المرء، لهذا لا عجب من تحوط صفاء ذياب من توزيع المكان وفق ما هو موجود في الفهرس ( 4 عنوانات انضوت تحتها عنوانات فرعية ) كي نستدل على عمق التجذير اللساني في المكان ( الطين ) الذي رصده المؤلف.
2. في هذه التوزيعات المعنونة لا وجود سوى للشعر بماهيته المجردة حيث يتفرد وحده في كينونته ، و يتجلى في عزلته ص 11 كفكرة خضراء ، و شرفة آمنة في أيام ناقصة أشبه بالحالم تتجمع في عزلة خالصة.
غبار في الخارج
و في الروح عواصف لا تنام
عقلي يعمل كماكنة خياطة قديمة
و بين اصابعي يتآكل الوقت كرقيم سومري
من هنا تتجه ماهية الشعر في التقاط تضاريس الامكنة في أزمنة مختلفة ، فـ(من كتاب البصرة ) تترسم اساطير مدينة ، حيث تحتشد بها الامكنة و الأزمنة في نسيج هلامي ثقيل مادام اختير لكل مدينة على هذه الارض مأوى ص23 و البصرة كمثال لا يمكن ان تعرف أية مدينة تجهلها بمجرد أن تصل عند بوابتها المتربة ص24 تحتاج لوقت و لمألوفية و كي تتأقلم ، الشعر لا يتطلب كل هذه المستلزمات ، فقط النظر و السمع و القلب لا غير بالنسبة له فالمكان مثلاً ( ساحة سعد ) ص 25 فعلى حافة حادة انحنى هذا الجندي ليرفع رمحه المكسور من بطن الحوت حيث المؤمنون في الفضاء القريب جدا ص26 و مقهى هي علامة رضا حيث يحلم الحالم و هو يجلس و يده بين فخذيه تدحرج ما تبقى من مساء البارحة ص 27 و لنأخذ من الشعر ( مراسيم قديمة ) تباشير لحياتنا القادمة أنموذجا ص 33
اللعنة – –
لا شيء يبدد السماء مرة اخرى بالجحيم؟
و في ( لم يكن هنالك شيء ) ص36 يبدو إن ماهية الشعر ترسم ملامح عالم آخر
لم يكن هنالك بيت
لم تكن هنالك بحيرة
لم يأت طائر أبداً
فثمة مكان خائر يتوجس الليل
و تستدرج الامكنة الشعر لعالم خال من رخاوة الشاعر في ( حياة معطلة ) من خلال الوصف المحكم لمعلم من تفاصيل الجنوب في ( جنوبيون ص 59 )
1
إلفة آفلة و جسد نحيل
و قشور
و هتافات – —
هذه هي المدينة
لكن الكتابة حول الجنوب يستغرق الشعر كله ، و لا يقف عند الحدود القصوى للتخيل ، بسبب لون الاختلاف و كمية التناقض ووفرة الإءتلاف بين المضادات التي يستخدمها الشعر ، ففي ( أيتها القصيدة التي لا تجيء إلا بالعصي ص 90 ) يركن الشعر في مهمته الى غاية الاخلاص.
عم تبحثين ؟
و ليس سوى الشواطئ مبعثرة
لك اللغة الخائفة
و انتفاضة عصفور يشاكرك النوى
و لعل صفاء ذياب و هو يخوض تجربة الكتابة في ماهية الشعر يستثني الشاعر بوصفه المشتغل المغترب عن كل تفصيلات الوجود المعطل في لحظات التجلي الآخذ من حيز الشاعر الكثير ، بإدراكه لهيمنة الشعر على آفاق العالم و اضمحلال الشاعر الى كومة طين ، ذلك الاحساس الذي أخرجه الى برانية المتن ، مادام لا يمت للشعر بصلة و قذف بالشعر نحو الخلق.