د. فاطمة الزهراء عبدالفتاح
في أكتوبر 2015 انتاب سائحون بريطانيون حالة من الهلع بأحد فنادق تركيا بعدما دخل موظف ساحة المسبح مرتديًا القناع والملابس السوداء لمقاتلي داعش، ما أثار الرعب في نفوس السائحين الذين فروا هاربين من المكان.
وبرغم تداول المواقع الإلكترونية للحادث على سبيل التندر، فإنه يحمل في الواقع دلالات عميقة بشأن قدرة التنظيمات الإرهابية على خلق هوية مميزة باستعمال رموزها الخاصة، والتي لم يكن انتشارها يتجاوز في الماضي حدود التواجد المكاني لتلك التنظيمات أو بعض الصور المتداولة في صحيفة أو مقطع مصور.
فمع التطور التقني وانتشار الإنترنت، باتت هذه الرموز تحاصرنا على المواقع الإلكترونية والتطبيقات الهاتفية وحسابات التواصل الاجتماعي، التي تبث بالنص والصوت والصورة الدعاية الإرهابية عبر العالم وبمختلف اللغات.
سيميوطيقا الإرهاب:
تشير السيميوطيقا إلى دراسة صناعة المعاني، فهي العلم الذي يعنى بالعلامات والأدلة والأيقونات البصرية والرموز اللغوية وغير اللغوية، أو كما تعرفها الموسوعة البريطانية بأنها دراسة الرموز وسلوك استعمالها.
ونزعت بعض الدراسات إلى البحث في الرموز التي تستخدمها الجماعات الإرهابية كالأعلام والشعارات والأقنعة والبحث فيما تحمله من دلالات ترتبط بأيديولوجيا وأفكار تلك التنظيمات، وكذلك البحث في دلالات السلوكيات والطقوس والأفعال وغيرها من الرسائل الصادرة عنها وتفكيك شفرة مضمونها وأهدافها.
وقدم جوناثان ماتوسيتز في كتابه «الرمزية في الإرهاب» عام 2015 دراسة شاملة للرموز والإشارات التي تستعملها التنظيمات الإرهابية على تنوعها، ورصد إتباعها منهجًا منظمًا في توظيف العلامات والشعارات والزي وغيرها من الرموز التي تحمل ألوان وكلمات وموتيفات بصرية ذات دلالات أيديولوجية من أجل خلق هوية عامة ومميزة، وهو ما استخدم في وصفه مصطلحاً مستعاراً من الدراسات التسويقية وهو «إدارة العلامات التجارية».
وأجرى جميل والي، بجامعة لينيوس السويدية، دراسة عام 2015 لتحليل دعاية تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، وتطرق إلى استعمال التنظيم للرموز في المواد الدعائية المصورة، والتي لم تقتصر على الشعارات والراية السوداء، وإنما رصد تحويل المقاتلين إلى رموز عبر تقديمهم، كأبطال شجعان يتسمون بالتفاني والإخلاص ويسعون إلى الشهادة، وذلك بالتوازي مع الاستعمال المضاد لرموز «الأعداء» بالحط منها وإهانتها والتقليل من خطرها وتأثيرها.
أيضا قدمت دون بيرلماتر تحليلاً سيميائيًا لأعمال القتل الطقسي التي تظهر في جرائم الإرهاب والشرف، بالمجلة العلمية للأنثروبولوجيا في جامعة كاليفورنيا عام 2016، وربطت في تحليلها بين «ثقافة العار» وممارسة الجهاديين لأعمال القتل على هذا النحو المليء بالرموز.
إذ عدت أن الاحتلال وانتهاك الأراضي المقدسة يولد شعور عميق بالعار يدفع الجهاديين إلى الإمعان في ممارسة العنف عبر مشاهد طقسية تشمل تقطيع الرؤوس والحرق والتعذيب لإثبات الرجولة واسترداد الشرف، وهو ما وصفته بالنمط الحديث لتحطيم الأصنام New iconoclasm عبر طقوس تسعى لكسر الأعداء جسديًا ورمزيًا لمحو العار وحفظ ماء الوجه.
وعلى الرغم من أن تحليلها تتضمن الكثير من التعميم والخلط بين المعتقدات الإسلامية وعقائد التنظيمات الإرهابية، فإنه تطرق بوضوح لدلالات الطقوس الرمزية في مشاهد الذبح والتي تسعى لإثبات القوة وكسر هيبة الأعداء والإمعان في إذلالهم.
وتبنى أيضا كل من ميا بلوم وهيلاري ميتفيس التفسير نفسه في دراستهم بدورية بريسم للدراسات الأمنية الصادرة عن مركز العمليات المعقدة التابع لوزارة الدفاع الأمريكية مارس 2016، حول سيميوطيقا جماعة بوكو حرام النيجيرية. إذ اعتبرا أن ممارسة عناصر التنظيم لعمليات الاغتصاب الوحشية ليس اعتداءًا جنسيًا بقدر كونه رمزًا جنسيًا للتعبير عن الغضب والعنف والهيمنة.
الرموز الإرهابية على الإنترنت:
تتنوع الرموز التي تستخدمها الجماعات المتطرفة ما بين الدينية مثل شعارات الجماعات الجهادية وعلم منظمة كاخ الإسرائيلية، والقومية مثل شعار منظمة إيتا الانفصالية حيث ترمز الأفعى للسياسة والبلطة للكفاح المسلح، والأيديولجية مثل الرايات الحمراء لمنظمة الدرب المضيء في بيرو.
ولا يمكن القول أن الجماعات الإرهابية، والجهادية على وجه التحديد باعتبارها الأبرز في استعمال الإنترنت، قد استحدثت رموزًا خاصة للشبكة ولكنها قدمت استعمالات خاصة للرموز ذاتها تتلاءم مع منصات الإعلام الإلكترونية الجديدة.
فقد قدمت الجماعات الجهادية الإسلامية وفي مقدمتها «داعش» حالة مميزة في استعمال التكنولوجيا، وبث الرموز الخاصة بها عبر الإنترنت، وبالتركيز على داعش يمكن أن نحدد رموز رئيسية استدعاها التنظيم في مواده الدعائية المتنوعة التي يبثها عبر الإنترنت.
وتتمثل تلك الرموز في الراية السوداء، والشعارات الخاصة بالولايات، وأزياء المقاتلين سواء الزي الأسود المقنع أو استعمال ثياب مطبوع عليها راية التنظيم كغطاء الوجه لـ»المقاتلات» وعصابات الرأس لـ»الأطفال» المحاربين.
كما استحدث التنظيم التصميمات الجرافيكية سواء للشعارات مثل الآية القرآنية «اقتلوهم حيث ثقفتموهم» التي تصدرت فيديوهات التنظيم لهجمات باريس في نوفمبر 2015، والتي تم بثها بتقنية عالية، وتصدرتها تلك الآية بتصميم جرافيكي يستدعي الألوان الأساسية لراية داعش وهي الأبيض والأسود، وكذلك التصميمات «الفنية» التي تقدم دمجًا للعمليات أو صور المقاتلين أو غيرها من التكوينات ذات الدلالة.
وقد استخدم داعش هذه الرموز على تنوعها واختلافها في المواد المختلفة عبر أشكال متعددة من الاستعمال الإلكتروني نرصد منها:
– الواجهات الإلكترونية، حيث يتم وضع رايات التنظيم المميزة في واجهات المواقع مثل الموقع الرسمي لمقاتلي ولاية داغستان، الذي أعلن انتمائه لداعش، الذي تتصدره الرايات السوداء.
ويتكرر ذلك بواجهات حسابات وسائل التواصل الاجتماعي حيث يتم استعمال الشعارات الإرهابية في الصور الأساسية للحساب أو الصفحة والتي تتمثل بالأساس في صورة الغلاف Cover Photo وصورة الملف الشخصي Profile photo. وعلى الرغم من أن الحسابات التابعة لتلك التنظيمات تتعرض للإغلاق بانتظام إلا إنه يمكن ملاحظة هذا السلوك في حسابات المتعاطفين والموالين.
– خاتم وخلفيات المواد المصورة: والتي لم تتضمن فقط مشاهد للمقاتلين وجوانب من الحياة تحت حكم داعش والتي تكتظ بالرموز ذات الدلالات الفكرية ، إلا أن التنظيم حرص أيضًا على استعمال الراية كخلفية بنحو دائم، وإظهار الراية كـ»خاتم» على كافة المواد المصورة فيما يشبه العلامة المسجلة، مع إبراز اسم الولاية مثل «الرقة» ، «سيناء»، «صلاح الدين» مكتوبة بخط عربي يكاد يكون موحدا بين الولايات المختلفة.
– خرائط ومناطق النفوذ: حيث بث التنظيم خريطة للمنطقة العربية يضع فيها علم التنظيم على الدول أو «الولايات» على وفق تسميته والتي يتواجد فروع له فيها كرمز للسيطرة والتوسع الجغرافي.
ولم يقتصر ذلك على أماكن الوجود الفعلي وإنما امتد للمناطق المستهدفة أيضًا فقد بث أنصار التنظيم صور للبيت الأبيض وبرج إيفل وساعة بيج بن يتصدرها راية داعش السوداء أو صور لمقاتليها، وتتواجد خريطة على حساب «أبو بكر البغدادي» على تويتر تتضمن الخريطة المستهدفة للدولة الإسلامية ومسميات ولاياتها .
– الإصدارات الإلكترونية والبيانات: فالبيانات التي يبثها داعش وولاياته يتصدرها خاتم مميز باسم التنظيم واسم الولاية، كما تتصدر راية التنظيم وصور مقاتليه بملابسهم المميزة وشعاراته الأعداد الإلكترونية من مجلة رومية التي تصدر عنه باللغة الإنجليزية.
– الصفحات الإلكترونية الرائجة: فقد نشر تقرير صحفي في مجلة الشباب الصادرة عن مؤسسة الأهرام المصرية في 30 سبتمبر 2015، أن أحد أنصار داعش أضاف تعليق على صفحة فيسبوك كوميدية شهيرة يتضمن شعار داعش وعبارات مؤيدة للتنظيم، وعلى الرغم من أن التعليق حظى باستهجان المستعملين إلا إنه حقق مشاهدات عالية نظرًا لوضعه على صفحة ذات قارئية.
رصد جيمس فارويل في دراسته حول الاستراتيجية الإعلامية لداعش عام 2015 استعمال أنصار التنظيم للوسوم الأكثر انتشارًا لنشر المواد الدعائية والشعارات بما يضمن وصولها لأكبر عدد ممكن، وتدشين وسم يطالب داعمي التنظيم بتصوير أنفسهم وهم يرفعون علم التنظيم في أماكن مختلفة حول العالم ويبثون تلك المقاطع على شبكات التواصل وهو الوسم الذي لاقى رواجًا كبيرًا وصل إلى 20 ألف إشارة في يوم واحد.
– تغيير هوية شعارات المواقع الشهيرة: وذلك بإصباغ شعار التنظيم على شعارات مواقع التواصل الشهيرة والمثال الأبرز في ذلك طائرة تويتر الأزرق، الذي تم إعادة تصميمه باللون الأسود لراية داعش، من قبل مؤيدي التنظيم على الموقع.
أهداف دعائية:
تلح التنظيمات الإرهابية في استعمال رموزها عبر الدعاية التي تبثها على الإنترنت، وإذا خصصنا الحديث عن داعش باوصفها الأكثر تميزًا في استعمال تكنولوجيا الاتصال، فيمكن تحديد هدف رئيسي لتلك الرموز التي يبثها التنظيم بكثافة تتمثل باختصار في تعزيز صورة «الدولة الإسلامية» المؤسسية المنظمة القادرة على فرض نفوذها وبسط هيمنتها ويتمتع مقاتليها بالقوة والشراسة وتتمتع بامتداد جغرافي آني ومستقبلي وامتداد زمني أيضًا بصور «أطفال» المقاتلين.
وتسعى داعش إلى تعزيز تلك الصورة لدى «أعدائها» ببث تلك الرموز وتعزيز تلك الهوية العالمية عبر الرموز الموحدة ذات الدلالة في رسائل دعائية تستخدم النص والصوت والصورة وتستثمر أدوات التكنولوجيا الحديثة في التوجه لشعوب العالم وبلغات متنوعة، وهي الرموز التي يظهر فيها العنف بوضوح.
وقد اعتبرت الدراسات ذلك عنفًا رمزيًا أو كما شبهه رفائيل ايدموندو، في أطروحته بجامعة فيلدينج الأمريكية، بأنه امتداد لـ»دعاية الفعل» التي رسخها الأناركيين خلال القرن التاسع عشر حيث استعملوا العنف كفعل رمزي لإثبات وجودهم وإقناع الجماهير بالثورة ضد السلطة، محللاً الفيديوهات التي تصدرها ولاية داغستان التابعة لداعش.
بالمقابل، يسعى التنظيم أيضًا إلى تعزيز إدراك هذه الصورة لدى الراغبين في الانضمام إليه بما يعزز شعورهم بالانتماء لكيان قوي ومنظم ويتمتع بهوية وأهداف واضحة قادر على تحقيقها، كما إنه يستند إلى ركائز دينية وشرعية تظهر في استدعائه لرموز ذات دلالة في فجر الإسلام، يأتي في مقدمتها الراية السوداء، بما يخلق حالة ملهمة تجتذب المزيد من المجندين للقتال تحت ذلك الرمز بكل ما يحمله من دلالات تتجاوز حدود الزمن المليء بالانكسارات إلى زمن آخر زاخر بمشاعر الانتصار والغلبة.
على الصعيد نفسه ، تسهم تلك الحالة الرمزية المكثفة في تعزيز شعور مقاتلي التنظيم ومنتسبيه بالانتماء لهذه المظلة الجماعية القوية التي توفر لدى أعضائها شعور بالأفضلية عن الآخرين، كما إنها تقلل من شعور الفرد بمسؤوليته عن الأفعال التي يرتكبها في ظل نسبتها للجماعة بما يعد حافزًا لممارسة «آمنة» للعنف، على وفق التفسيرات التي طرحها مارك روجرز في دراسته حول سيكولوجية الإرهاب الإلكتروني. وأشار روجرز إلى أن تضخم الشعور بالهوية الجماعية وتراجع المحاسبة الفردية، يقلل بالتبعية القيود على السلوك ويزيد من فرص السلوك المعادي للمجتمع.
إن الاستعمال المكثف للرموز في دعاية الجماعات الإرهابية يخلق هوية مميزة للتنظيم تساعده في ترسيخ صورة ذهنية بشأن قوته وأفكاره ونفوذه حتى وإن كانت مخالفة للواقع إلا إنه يتم صناعتها عبر منهج دعائي منظم ترتبط فيه شعارات التنظيم ورموزه والهيئة العامة لمقاتليه ورجاله بمعاني القوة والهيمنة والتدين والجهاد.
ولتصبح بذلك هذه الرموز قادرة على استدعاء هذه الصفات والأدوار بمجرد مشاهدتها، حتى وإن تم عرضها بشكل منفصل عن سياق تلك الرسائل، وذلك بفضل الدعاية المنظمة والممنهجة التي منحتها شبكة الإنترنت وأدوات التكنولوجيا فرصا متعاظمة للتأثير والانتشار.
*مركز المستقبل للدراسات والبحوث.