علوان السلمان
السرد احتياج انساني يسعى منتجه للتواصل مع الوجود الاجتماعي بكل مفاصله.. والقص القصير جدًا بتركيبه اللغوي الثلاثي الالفاظ الحامل دلالتين: الاولى نوعية(قصة)وثانيهما كمية(قصيرة جداً)..وتسمياته المتعددة (الزمنية والدلالية (الومضة القصصية/ بورتريه/مشهد قصصي/ايحاءات/ القصة القصيرة اللوحة)..التي تشترك في دلالة السرعة لقصرها واشارتها الى البناء الشكلي والايحاء اللفظي المحدود.. تشكلت استجابة لظروف ومتغيرات حياتية واجتماعية واقتصادية وسياسية املاها التطور الحضاري والتكنولوجي ..بوصفها جنس ابداعي مستحدث تتم صياغته باحترافية مكثفة وموجزة.. مركزة على اللفظ الموحي.. الموصل للمعنى في سياق يتجاوز ويتفرد بدلالته وملامحه الفنية المتميزة باللفظة الموحية..المكثفة والنزعة السردية الموجزة والمقصدية والرمزية.. فضلا عن التلميح والاقتضاب وابتعاد عن الوصفية الاستطرادية واعتماد الجملة الفعلية الدالة على الحركة والتوتر بتوظيف خطاب فني متميز بالتصوير البلاغي المتجاوز الى ما هو مجازي ضمن بلاغة الانزياح والخرق الجمالي.. هذا يعني انها مكون فني وافراز من افرازات التجريب الحياتي المعاصر التي تتسم بالموجز المحمل بالطابع النفسي من اجل تحقيق كينونة الانسان..من خلال معاييرها الكمية(مشهد او نص)ناتج عن التكثيف والتركيز واللفظ البعيد عن التقعر مع اجتناب الحشو والاستطراد في الوصف)..والكيفية التي تتجسد في المقومات الاساسية التي هي مقومات الحبكة السردية(حدث وشخصية وفضاء مكاني ومنظور سردي..)
والتي توظف بنحو موجز ومكثف بالإيحاء والرمز والانزياح.. فضلا عن الدلالة والمقصدية التي تحدد خصائصها التجنيسية والنوعية..
اما فيما يتعلق بجملها فهي توظف الجمل الموجزة المحققة لوظائفها السردية والحكائية التي تمتاز بخاصية الحركة وسمة التوتر والايحاء وسرعة الايقاع الذي يتصف بالسرعة والارتكان الى الاضمار والحذف المنشطان للذاكرة واستحضار الاخيلة..مع توظيف الاساليب البلاغية (مجاز/استعارة/..) والرموز المكتنزة بدلالاتها من اجل بلورة الصور القائمة على الادهاش بألفاظ زئبقية وكثافة تصويرية تسهم في التأويل واستفزاز الذاكرة ونبش مخزونها..
وباستحضار المجموعة القصصية (فم الصحراء ).. التي احتضنت عوالمها القصيرة جدا دفتي غلاف احتل وجهه اللونين البني والرمادي وخلفية البياض الذي توسطه العنوان العلامة السيميائة الدالة بفونيماتها الثلاثة التي شكلت جملة اسمية مضافة تكشف عن أنسنة الطبيعة بوجودها المنبه.. واعتلاه اسم المنتج وفي زاويته اليسرى كان نوع الجنس الادبي..اما الوجه الآخر له فكان البياض وجودا ارتسمت عليه حروف الناشر(في هذه المجموعة من القصص القصيرة جدا يتخذ زيد الشهيد من الصحراء مكانا لسرده.. فيرسم بشعريته المعهودة خلجات الشخصيات وتأثيرات المكان..)..واسهمت دار رند في نشره وانتشاره/2011..لمحاولة المنتج افراغ شحناته الانفعالية متنقلا بين صحارى متعددة المكان وتأثيراته فقدم نصا مدهشا..مكثفا يغوص في اعماق الحس الانساني فيستفز الذاكرة ويحثها للكشف عن المضمر القابع وراء المشهد السردي المتشكل من بنية نصية منفتحة على التأويل..
(كان علينا ان ننتهي عائدين من رحلة الرعي بجمالنا عندما لفتت انتباهنا خرقة قماش تهفهف..منبثقة من تحت الرمل وقد توجهت الشمس لتضرب بنورها البرونزي على نقوش زاهية تحتويها الخرقة فتظهرها كما لو ان احدا ما تولى قبل وقت قصير دفنها لتكون دليلا لقافلة ستأتي فتنصب خيامها هنا..الخرقة شفافة غريبة النقش لا تمت الى انواع القماش الذي تلبسه امهاتنا واخواتنا عادة..تلك الملاحظة ولدت الاستغراب لدينا واثارت الفضول فدنونا..سحبها شاهر فلن تأت بيده..وجدها غائرة في دفين الرمل كأن شيئا ما يشدها..صاح بنا:تعالوا…ما هذا؟
نداؤه المغموس بالاستغراب دفعنا الى الدنو منه وتفحص ما راح يسحبه من تحت الرمل ويجاهد في معرفة منتهاه..كبر الفضول… صار بحجم الصحراء التي تضمنا..بسعة النهار الذي صاح بنا احفروا لأنني أوشك على الانطفاء.. حفرنا وحفرنا.. ازلنا الرمل لتتسع الحفرة قليلا واسقطنا في هول أمر عظيم..في يم مفاجأة تراجعت ازاءها امتدادات الصحراء فغدت فسحة بين دهش عميم زخرف جارف.. فماذا اكتشفنا؟ اكتشفنا الخرقة ثوبا لامرأة دفنت حية تحتضن رضيعا لما يزل يتعلق بثدي أمه..).. /ص93
فالقاص يعتمد مقومات واساليب تعبيرية كآلية السرد التي تتجسد في المقومات السردية كالحدث والشخصية والفضاء المكاني والبنية الزمانية والتعبير بالصورة المشهدية بنحو موجز ومكثف بالرمز والانزياح لتحقيق المتعة الجمالية باستيقاظ الحياة والرؤية الابداعية فكان النص(تصميما محملا بقدر من الحساسية ..) على حد تعبير هربرت ريد.. كونه يكشف عن مكون عراقي (الكرد)خلال مرحلة التهجير والدفن للمعارضين للسلطة آنذاك في صحراء السماوة والملبــس يكشف عن هــويتهم.. اضافـة الى اعتماد المنتج(القاص) ثوابت ومكونات فنية وجمالية تنحصر في فعلية التركيب والتتابع والتسريع والمفارقة الاسلوبية الادهاشية ..فضلا عن اهتمامه بالجهد التكثيفي اللغوي والاختزال في المضامين من اجل التحليق في اللغة والسمو بها الى درجة الشاعرية والانفتاح على مفهوم التجريب في سياق الجماليات الحداثية مع اهتمام بعنصر المفاجأة الاسلوبية داخل البناء الحكائي..المتسم بالخاصية الرمزية التجريدية باستخدام لغة الاشارة السيميائية والدوال الموحية المكتنزة بالمدلولات التي تستنبط من سياقاتها اللغوية والنصية والذهنية.. مستلهمة مكونات السرد وخصائصه (الحدث/الشخصية/فضاء يثير في المستهلك(المتلقي) الاحساس بالكينونة في الزمان والمكان على حد تعبير هايدجر.. / رؤية سردية شعرية او ما يسمى عند ايف تادييه yve tadie بالمحكي الشاعري.. اي ان النص ينساق وراء الشاعرية الابداعية بوساطة استخدام القالب الشعري واللغة الموحية والصور الشعرية الانزياحية../نسق زمني مكثف وصياغة اسلوبية..
قال لها: الافضل ان اتوارى عن العيون لاغيب الالسن..
وغاب..ضاربا باتجاه النأي..الليالي خارطة المسير استدلالا بالنجوم/ استعانة بركام الايام الخوالي واحاديث خزينة المعارف..أما النهارات فللرقاد تحت ظل غزارة اغصان شجرة طلح او اتكاء على كتوف افياء اخاديد ولدتها تحركات الرياح اتقاءً لحمأ الصحراء لهيبة الرمال واكتسابا لامان مفقود تشرذمه الساعات العتيمة..وغير ذلك صور للأهل تشحذها الذاكرة وتلمها رغبة العودة للقاء الحميم..
( الوجوه تطل وتغيب.. تتبدل الأماكن.. وهو بين هذه وتلك كان يغوص رويدا رويدا نحو قرار لا يعرف منتهاه مرددا ما سبق قوله:
ـ الافضل ان أتوارى عن العيون لاغيب الالسن /ص25 ـ ص26..
فالقاص يتوافق واستراتيجية القول(البلاغة في الايجاز) وما طرحه النفري الصوفي(كلما ضاقت العبارة اتسعت الرؤية)..كي يحقق تكثيف الحدث والموضوع كونه عنصر اسلوبي يحدد بنية النص ومتانته..بوصفه عنصرا حيويا بما ينطوي عليه من مجازات وثنائيات تستحضر من فضاءات فنية وجمالية.. باعتماد الرمز والانزياح اللغوي والموضوعاتي..والاستعارة والمجاز. باعتماد لغة ذات ابعاد دلالية وجمل موجزة بعيدة عن الاسهاب الوصفي وكثرة المشاهد بتصوير فني لغوي ينم عن دراية واعية للمنتج(القاص) واشتغالاته التي تقوم على معايير(كمية وكيفية وتداولية ودلالية ومقصدية..).. تتضافر في بيان خصائصها وهندستها معنى ومبنى..بتوظيف لغة واعية(بوصفها بنية خطية) لها بعدان: اولهما ظاهري بالدوال الصوتية التي تؤكد على وجود طاقة ايحائية كامنة في طبيعة الابنية الصوتية المنسابة من بين جوانح النص..وثانيهما باطني خفي بدلالة المعنى..(استدارت عائدة لغرفتها..الفت زوجها يرحل في نومة هانئة..الغطاء يدثر جسده الا الوجه الغارق في دعة وانبساط.. وبنظرة زاحفة لمحت هديتها المقدمة منه قبل ثلاثة ايام تنتصب على رف جمعت فوقه جملة هدايا اثيرة عندها ـ لعل احدها ذلك الصندوق الجميل ـ /ابتهجت.. غير ان شيئا ما كالهاجس خلق قلقا..عادت تتذكر موت ابيها بعد اسبوعين من تقديمه الصندوق هدية/ مقتولا بطعنات غادرة في حديقة عامة ضيعت كل اسباب القتل ومسحت جميع معالم الاكتشاف. نفرت متطيرة. تناولت الهدية(الهدية ماكنة قطار تجر ثــلاث عربات.. خمــنت ان كل عـربة تــمثل عــقـدا من الاعوام.. والثلاث عقود هم عمر زوجها الذي يكبرها بعامين..ونوافذ العربات مسدلة الستائر باستثناء آخر نافذة من العربة الاخيرة.. هناك وجه لقرد يضحك.. خالته يمد لسانه استفزازا..)..استدارت عائدة الى السرير تتدثر مطوقة اياه بذراعين مختلجتين..مرتبكة/ وجلة قضت ساعات ذلك النهار.. وفي الليل صرفت وقتا ممطوطا تنتظر مقدم الزوج العامل في محطة قطارات المدينة..ما لبث ان استسلمت لنوم مربك/هزيز..لتستيقظ على انطلاق رنين الهاتف في لحظة قاربت لحظات استيقاظها المفزع لكابوس الامس.. نهضت مرتعبة.. بموجة خوف مهاجم وتوجس مريب رفعت السماعة تصغي لصوت رجولي حنون:
نأمل حضورك لمركز البوليس ثمة أمر يتعلق بزوجك..كوني هادئة../ص75ـ ص76..
فالنص يتصاعد بثوابت ومكونات فنية وجمالية تنحصر في فعلية التركيب والتتابع والتسريع والمفارقة الادهاشية والايجاز والتكثيف والصورة المشهدية..مع اعتماده تقانات فنية منها الاستذكار والاستباق والتكرار الظاهرة الاسلوبية التي تعكس جانبا من الموقف النفسي والانفعالي الذي تفرضه طبيعة السياق..وهناك التنقيط(النص الصامت) الدال على الزمن والوسيلة التعبيرية التي ترمز للمحذوف من التعابير التي تحرك ذهن المستهلك(المتلقي) كي يسهم في بناء النص الذي تتمحور مناطق الاشتغال الجمالي(الاستاتيكي) داخل تيمته وعلى امتداد بنيته التي يختفي وراء وجودها الظلي المضمون المحرك لذاكرة المستهلك لاستنطاقه واستقراء ابعاده تأويلا واعيا..كاشفا عما يركن خلف الفاظه ومشاهده.. فضلا عما يمتاز به فضاؤه من تكثيف واخــتزال مفــضيان الى الانســجام والتناغـم معه ..كونه يصدر من رؤية ذهنية ثقافية توظف احالات معرفية تتمظهر في التركيب النحوي واعتماد الجمل البسيطة ذات المحمول الواحد(فعليا او اسميا او ظرفيا..)..وتقوم الفواصل(علامات الترقيم) في تقطيع الجمل وتكثيفها واختزالها والتي هي غالبا ما تكون جمل فعلية دالة على الحركة والتوتر الدرامي واثراء الايقاع السردي وتسريع الاحداث بنحو دينامي حيوي..اضافة الى خضوعها لخاصية الانزياح بتوظيف لغة التشخيص الاستعاري والمجاز والترميز من اجل خلق لغة ايحائية شاعرة مؤثرة استجمعت كل مكونات الفعل السردي وخصائص التشويق والادهاش الفني والجمالي المتسمة بخاصيات دلالية وجمالية تتجسد فنيا في الاضمار والحذف والتراكيب الجملية وتتابعها في سياق النص من اجل خلق التوتر الدرامي والوصف المقتضب..
وبذلك قدم القاص خطابا لغويا..معرفيا تشكل من بنى ثقافية واجتماعية من خلال اداة توصيلية للتعبير عن المعاني المكتنزة في ذهن المنتج وهو يخوض في عوالم الصحراء بامتداداتها الطبيعية والتواجد البشري الذي يشغل عوالمها ويعيشها لتحقيق رؤاه ومقاصده الخطابية..