د. عبد العظيم السلطاني
كتاب ((من الذي دفع للزَمّار؟ الحرب الباردة الثقافية)) لمؤلفته البريطانية فرانسيس ستونر سوندرز، صدر في بريطانيا باللغة الانكليزية عام 1999. وبين يدي الآن الطبعة الرابعة المترجمة إلى العربية عن المركز القومي للترجمة في القاهرة، بترجمة طلعت الشايب عام 2009. بمعنى آخر، أتحدث عن كتاب لم يُنشر قبل أسبوع أو شهر أو سنة، لنكتب عنه قراءة فيه. لكن هذا الكتاب كالذهب، لا علاقة لزمن صدوره بأهميته. فأهميته متغلغلة فيه وبأكثر من منحى.
الكتاب يتناول موضوعة: ((المخابرات المركزية الأمريكية وعالم الفنون والآداب))، وهذه الجملة الشارحة وُضعت على نسخة الكتاب بترجمته العربية، بوضع مائل، كي تبدو خارج العنوان الرسمي للكتاب، وفي الوقت عينه تبقى جملة شارحة لمركز مضمونه. وهي جملة غير موجودة في البطاقة التعريفية للكتاب بنسخته الإنكليزية الأصل. ولعل وجودها في الترجمة العربية ذا دلالة. فالمسؤول عن نشر الكتاب بترجمته العربية يُدرك الميول الثقافية للقارئ العربي، وبحثه عن الحكايات السريّة لمنظومة المخابرات أو غيرها. وقد تدغدغ هذه الجملة لدي هذا القارئ رغبته المكبوتة أو المعلنة في الحديث عن نظرية المؤامرة، التي تحوكها المخابرات العالمية. لذا هي ((ضربة معلم)) لجذب القارئ العربي.
الطريقة التي كُتب بها الكتاب سردية كفيلة بجذب القارئ، ودفعه للتواصل في قراءة كتاب ضخم الحجم تجاوز أربعمائة وخمسين صفحة. ليجد القارئ أهمية الكتاب في أكثر من موضع. فهو مهم في موضوعه، الذي ينير جانبا متعلّقا بظروف ودوافع وأهداف بعض الإنجازات الثقافية والأدبية والفنية. فيساعدنا في فهمها كما ينبغي أن تُفهم، حين وضعها في سياقها الصحيح. فهي ليست نصوصا بلا جذور. إنّما هي خطابات ثقافية لها رؤية ولها جذور وروافد وغايات ومحركات، وهي بالنتيجة شواهد على عصر، مازالت نسخه تتكرر ولو بصيغ وأشكال أخرى.
والكتاب مهم لأنّه يشرح لنا الأيادي الخفية التي تتدخل في صناعة الثقافة… وهو مهم لأنّه يشرح لنا ضمنا بؤس الإنسان حين يكون بضاعة بيد السياسة وأجهزة المخابرات، حتى انخرط صفوة ليست قليلة من المثقفين وكبار الكتّاب في جوقة من المُزمّرين والمروّجين وبثمن مدفوع. ويشرح لنا ضمنا بؤس الإنسان وهو سوق تروّج في عقله البضاعة الثقافية لتلك الأجهزة والمنظمات، فيشرب سموما ثقافية باسترخاء.
في الكتاب شرح تفصيلي لوقائع سعي المخابرات الأميركية الـ CIA في تصديها لثقافة المعسكر الاشتراكي من خلال تأسيس نسق ثقافي مضاد. عملت على تنميته بقوة، من خلال مكتب خاص أسسته عام 1947، ثم تُوّج عمل المكتب بتأسيس ((منظمة الحرية الثقافية)) عام 1950. ليكون هدفها التصدي للمشروع الآيديولوجي الاشتراكي، ومحاربة الثقافة الشيوعية وكشف سوأتها، وتصويرها كشيطان غايته خنق حرية الإنسان وتنميطه. والثاني من أهدافها، تحسين صورة أميركا وتسويقها أنموذجا ثقافيا للعالم الحر. فكانت المنظمة حريصة شديد الحرص على تقديم ذاتها على أنها واجهة ثقافية أميركية راعية الحرية، وأنها تساعد الناس على التعبير عن حريتهم الإنسانية والدفاع عن الثقافة المدنية الليبرالية. وسوّقت هذه الفكرة في أوروبا مثلما سعت إلى تسوّقها في أنحاء العالم الأخرى.
وفي الكتاب كشف للكيفية التي تدير بها المخابرات الأنشطة الثقافية، وهي السرّية والاعتماد على الدعاية وتأسيس شبكة اخطبوطية واستعمال شتى الوسائل التي يمكن أن تؤدي إلى تحقيق أغراضهم، وأوّلها وجوه المشاهير وشخصيات الفن والأدب والثقافة… وفي الكتاب كشف للقيم الثقافية التي يستندون إليها ويديرون مشروعهم الثقافي المخابراتي من خلالها. فهم يستندون إلى مبادئ خطيرة كـ ((الكذب الضروري))، وشرعية التزييف… وفي الكتاب أسماء لنماذج متناقضة من المثقفين، فمنهم من باع نفسه، وأجّر قلمه، بثمن بخس، ومنهم مَن كان يبيع ويؤجّر أيضا، لكنه يجيد فن رفع سعر البيع أو التأجير. ومنهم من لم يستجب للإغراءات، فلم ينخرط في هذه المشاريع الثقافية المشبوهة، وكان عصيا على البيع والتأجير، له موقف وجودي من معنى حياته وقيمة ذاته، فهو يجد قيمتها في نظرته لها وليس فيما يقال عنه، فما قيمة الإنسان إن ربح العالم وخسر ذاته؟!!.
وتنوّعت درجات ارتماء الكتّاب والمثقفين في أحضان الـ CIA . فمنهم من تعاون بنحو شخصي وكبير، فكان موظفا مباشرا لديهم. ومنهم مَنْ تعاون بدرجة أقل، كتزويد المعنيين بإدارة تلك الحرب الثقافية الباردة بقائمة بأسماء الكتاب والإعلاميين المتعاطفين مع المعسكر الاشتراكي(ص327). ومنهم مَنْ استثمرت ((منظمة الثقافة والحرية)) واجهة الـ CIA منجزهم الأدبي الذي أصدروه خارج تأثير المنظمة أصلا. مثل الكاتب البريطاني ت. س. إليوت، المتديّن المعادي للإلحاد والشيوعية، فاستُثمِر توجهه الثقافي، فـ((عهدت بترجمة عمل اليوت «الرباعيات الأربع» وكانت تلقى النسخ من الطائرات على روسيا)) (274). ومثل هذا أورويل وروايته ((1984))، التي عبّر فيها عن رؤية تشاؤمية للمستقبل، وفيها يشجب كل سلوكيات ومفاسد الأنظمة القمعية التسلطية، وهو لم يكتبها استجابة لطلب من المنظمة ، فـ ((برغم أن أهداف الكتاب كانت غاية في التعقيد، إلا أن الرسالة كانت واضحة: فهي احتجاج ضد كل الأكاذيب، ضد كل أنواع الخداع والحيل التي تمارسها الحكومات، لكن خبراء الدعاية الأميركيين كانوا حريصين على أن يجعلوها تسير في مسار معاد للشيوعية)) (ص324). فعملت المنظمة على إنتاج الرواية لتكون فلما سينمائيا في الخمسينيات، بعد أن دفعوا الحقوق المالية لورثة الكاتب أورويل. وتدخّلوا في الفلم فحوّروا بعض التحوير/التزييف في نص الرواية لتناسب أهدافهم في محاربة الشيوعية. بل إن الـ CIA وضعت نهايتين مختلفتين للفلم، واحدة تناسب الجمهور الأميركي حين يُعرض الفلم فيها، وأخرى تناسب الجمهور البريطاني حين يُعرض الفلم في بريطانيا. ووُزع الفلم على نطاق واسع، ودُعم من خلال الدفع للكتابة عنه في أكبر الصحف الأميركية (ص326-327).
يدعونا كتاب ((مَن الذي دفع للزمار؟)) إلى التأمّل في كيفيات تدخل المخابرات في توجيه الثقافة، أولا، ويدعونا إلى التأمّل في خطر الثقافة، أداة من أدوات التحكّم بالمجتمعات والدول ثانيا. فالثقافة أرضية الوعي التي تنتج نوع الآداب والفنون وطبيعة الرؤية الثقافية التي تحملها. وقد كانت تُصرف على صناعة الثقافة المؤدْلَجة الأموال الطائلة وبنحو سري وبلا أدلة. و((كان لمنظمة الحرية الثقافية مكاتب في 35 دولة، ويعمل بها عشرات الموظفين، وتصدر أكثر من 20 مجلة ذات نفوذ. وتنظم المعارض الفنية وتمتلك مؤسسات إعلامية. وتعقد مؤتمرات دولية تحضرها شخصيات بارزة. وتكافئ الفنانين والموسيقيين بالجوائز، وترعى معارضهم وحفلاتهم)). ولم تسلم المنطقة العربية من يد هذا الأخطبوط الثقافي المخابراتي، فكان له مشروع في بيروت.
وهكذا بدا مجمل عمل ((منظمة الثقافة والحرية)) في الخمسينيات والستينيات.. وكأنها تقود غزوا ثقافيا، يطلقون عليه، ((عصر تنوير جديد، وأن ذلك سوف يسمى بـ «القرن الأميركي»)). متخذة من وسائل نقل المعرفة والفن أدوات لها، من كتب وأفلام ومؤتمرات…الخ. كلّها مسخرة لهذا الغزو الثقافي للاستحواذ على عقول البشر.
كتاب ((مَن الذي دفع للزَمّار؟)) مهم بمجمل دلالته، ويستحق أن يُقرأ بعناية من الغلاف إلى الغلاف، فحتى في صفحة الشكر والتقدير التي كتبتها سنودرز يجد القارئ مساحة من الإلهام والتحريض على الكتابة الصادقة النبيلة. مثلما يجد التعظيم والتوقير الملهِم، من أولئك الذين يمدّون يد العون لمؤلّفة جادة ومصّدقة بما تمارس من كتابة. إذ تروي الكاتبة في صفحة الشكر معاناتها في كتابة هذا الكتاب، وهي تجرّر صناديق أوراقها ووثائقها وتتنقل من مكان لآخر، وتبذل الجهد والمال وتخاطر أحيانا من أجل كتابها…وهي تشكر كل الذين قدّموا لها عونا، من توصية في الحصول على وثيقة أو ترميم ثقتها بنفسها حين تتزعزع تحت مطرقة اليأس والإحباط وتوصد بوجهها الأبواب، وتزداد المضايقات من إدارة وثائق الـ CIA… سنودرز حتى في شكرها تفتح أبوابا من التحريض والإلهام للكتاب، لتكون الحقيقة نصب أعيننا ونحن نسجل ما ينبغي أن يُسجّل، بأن نكتب التاريخ لنرمّم الحاضر