قراءة في كتاب (الكتابة على جدار أخضر)

نهى جعفر

بين كل ذلك الزخم من النتاج النقدي الذي يبحث في عوالم الأدب بكل تلك الرؤى المتفاوتة والمقاربات المختلفة التي تقوم بعرض وتبويب النتاج الأدبي تبرر لهذا الجنس وتقدم رؤاها لآخر …وفي الوقت الراهن اشتبكت تلك المقاربات وأصبحت بعيدة كل البعد عن جادة الوضوح , فقد تعرض مادتها بلغة عصية على الفهم وقد تعبر عن رؤى أصحابها البحتة , والحقيقة أنني أجد في ذلك المنجز أقلاما تستنير بإمكانيتها الأكاديمية في أمانة الطرح ووضوح الرؤية …..
صدر عن دار ميزوبوتاميا كتاب (الكتابة على جدار أخضر) للناقد والاكاديمي جاسم حسين سلطان الخالدي ضمن منشورات بغداد عاصمة الثقافة العربية 2013 يقع الكتاب في 268 صفحة احتوى الكتاب على مقدمة وثلاثة محاور كل محور تناول جانباً من الشعر أو مظهراً من مظاهره فصل القول فيه كما سنأتي عليها في العرض, ثم قائمة بالموارد الكتاب تتلوها قائمة بالمنشورات التي صدرت عن الدار.
القارئ لهذا الكتاب يجد نفسه أمام نتاج أدبي امتد على مساحة واسعة من الزمن تنوع بين الحديث والقديم والأكثر حداثة ولذا فأنت أمام جدار أخضر , أخضر بتنوع الجماليات وتنوع النتاج , وتنوع التسميات , ونحن إذ نبحر في هذا البحر المعطاء سنعتمد منهجية العرض والشرح والنقد في هذا الكتاب.
يصرح الكاتب في بداية بحثه هذا بتلك المساحة الواسعة التي افترشها قلمه وكأنه أراد أن يستعرض الشعر على امتداد تاريخه لنلمس الجديد بالقديم ..أو لنفترض وشائج الاتصال بين ما هو قديم وما هو محدث , ليترك للقارئ أن يدرك بفراسته وهو يطالع تلك الكتابات على جدار الشعر الأخضر ما للقصيدة العربية من قدرة على التجدد والتطور والجري بخطى حثيثة إلى الأمام , راسمة صورة بهية للواقع الشعري العربي على حد تعبيره(9)

عرض الكتاب :
المحور الأول : قصيدة النثر وظواهرها .
1. ملامح اسلوبية في قصيدة النثر التسعينية في العراق:
يحاول الدكتور في هذه النقطة أن يقدم قصيدة النثر على أنها أحدى تمثلات العصر خرجت على اللغة التقليدية لتتمثل زمنها , فالطموح الفكري والاجتماعي بحاجة الى لغة توازيه وتصاديه , وعليه فأن تلك القصيدة لم تتمرد على القصيدة الأم بل هي تطور طبيعي لها , ثم يقدم مجموعة من الأمثلة والتطبيق عليها من خلال اللغة الظاهرة وما وراء اللغة والأسباب التي دفعت الشاعر لاختيار تلك اللغة بالذات , يختم البحث بمجموعة من النتائج تقدم مختصراً واضحاً لتلك القراءة التي سبقتها بل انك تكتفي بتلك النتائج لوضع يدك على توجه الدكتور في تلك النقطة التي بحث فيها عدا الأمثلة التطبيقية التي قام بتقديمها ليدعم ما ذهب إليه بالانموذج.
يخلص في دراسته الى أن قصيدة النثر كانت رغبة من الشعراء للخروج على السلطة الأبوية للقصيدة الأم ,كما أن التغريب كان مقصودا في اللغة لإيجاد نص شعري مغاير , مغاير في لغته وشكله واتجاهه ولذا فقد قدم الشاعر التسعيني قصائده مفعمة بالفلسفة والواقعية والحكمة ليمثل مأساته الحياتية التي نطقت بكل صدق عن تكوينها ومرارتها. وانه يعي تماما ويعني كل مفردة يقوم بتوظيفها في

2. قراءة في قصيدة النثر التسعينية في العراق (اليوسفيات أنموذجا)
بعد أن تنتقل من نقطة البحث في خصائص قصيدة النثر التسعينية في العراق ينقلك الدكتور مباشرة إلى تناول مثال تطبيقي يفصل القول فيه من خلال المنجز الشعري للشاعر ( عباس اليوسفي) وهو من شعراء التسعينيات يتناول الدكتور في تلك المساحة اصدار المجموعة الاولى للشاعر(اليوسفيات) ليعالجها من ناحية الموضوعات واللغة متناولا بعض النماذج من تلك المجموعة ليخلص من خلالها لتقويم تلك التجربة التسعينية (استطعنا ان نرى صورة الشاعر التسعيني بمرآة الشاعر عباس اليوسفي وهي – لعمري- مرآة استطاعت بمهارة أن تسلط الأنظار على أهم ما ينبغي أن يكرس الشاعر قلمه للتعبير عنها)50.

3. أغاني صانعة الأحزان (قراءة في شعر نجاة عبد الله)
وهنا يتناول الدكتور مثال تطبيقي آخر من شعر التسعينيات ,ولعله مقتنع تماما بأن للتسعينيات وقع خاص على شخصية الفرد العراقي لدرجة أنها من الممكن أن تكون قد شكلت له شخصية مختلفة عما سبقها من سنوات , ولعله أراد أن يقدم صورة متكاملة الملامح عن تلك الحقبة من خلال تقديم نماذج لشعراء وشاعرات كانوا قد وجدوا أنفسهم في إتون مشكلات لا حصر لها ,فقاموا بممارسة حريتهم على القصيدة , حرية مستندة الى قواعد في التجديد بعيدة كل البعد عن الفوضى في الخروج على المألوف , ولكنها سرعان ما تحولت لدى بعضهم الى معادلات حسابية عصية على الفهم وبعضهم من عادوا بها الى روح السلف الفرنسي فكانت قصائدهم اقرب الى النموذج الفرنسي وهذا من اهم ملامح قصيدة النثـر التسعينية نجاة عبد الله كانت واحــدة من اولئــك الذي حفروا بتعابيرهم للغـة الشعرية مجــرى آخر, ثم يقدم الدكتور مجموعة من النصوص التي يقــوم بمعالجتها كشاهد على ما ذهب اليه.

4. الشعر ولا شيء سواه في(أنقذوا أسماكنا من الغرق) لرعد زامل
في هذا البحث يتناول الدكتور تجربة الشاعر(رعد زامل) التسعينية مع قصيدة النثر موضحا إن الانحراف اللغوي سمة واضحة في نتاجهم الشعري وبالأخص في عنوانات مجاميعهم الشعرية, ثم يتناول مجموعة قصائد يقوم بمعالجتها وتوضيح رؤاها ووضع اليد على مناهلها من التراث والدين , من خلال تتبع مفرداتها ولغتها.

5. ثريات الرماد (انطلاقة الشاعر نحو فضاءات الشعر)
وفي هذا البحث يتلمس الدكتور أيضا مسيرة الشاعر (أحمد عبد السادة) واتجاهه في منجزه الشعري ..خصائصه الفنية ولغته يتوصل من خلال قتلك القراءة إلى مسيرة الشاعر بما تمتاز به من سمات تعطي أملا جديدا من أن القصيدة العراقية لا يمكن لها أن تقف عند حدود معينة , ثم يتناول مجموعة من الأمثلة التطبيقية يتلمس من خلالها ثيمات قصائده ومزجه بين جنسين شعريين :التفعيلة وقصيدة النثر وشيوع الغنائية وكلاسية الموضوع على صعيد الأسلوبية لدى الشاعر.

6. أزمة التلقي(تقصي في ظاهرة ضعف تلقي الشعر المعاصر)
يتناول الدكتور في هذا البحث أزمة التلقي في الشعر العراقي المعاصر ويصر على إن للقصيدة منطقة دفء تلتقي من خلالها مع المتلقي وعلى الشاعر أن لا يهملها فإن أهملها فسيغدو النص بلا جمهور ,هذا لا يعني أن تتنازل القصيدة عن ملامحها الجمالية وتحطيمها للغة في سبيل وصولها للمتلقي ,مطلقا واستشهد لهذا بنتاج الجواهري ورواد الشعر الحر ثم يستشهد بنصوص تطبيقية يناقش فيها تلك النقاط التي تقرب النص من القارئ يخلص من خلالها الى إن للشعر رسالة وعلى الشاعر أن يتحرر من كونه شاعر يكتب للشعر فقط والحقيقة إن للشعر وظيفة ورسالة في هذه لولاها لأصبح لغوا لا قيمة له.

7. أنوية المركز وفوبيا الهامش (معاينة نقدية في صراع الأجيال في الشعر العربي).
يتصور الدكتور في هذا البحث ان العداء الذي قوبلت به قصيدة النثر وبالأخص من أنصار الشعر الحر هو فوبيا التهميش التي تصوروها فإذا كان لقصيدة النثرهوية في مملكة الشعر فإن هذا مما يسحب البساط من تحت أقدام الرواد من مركزية التجديد يستعرض في هذا البحث آراء الملائكة في قصيدة النثر وهجومها القاسي عليها معللا ومناقشا في أكثر من موضع وكذلك فإن النقد العربي كان زاخرا بالسجالات التي تنكر الحديث وثورته.

8. مشروعية قصيدة النثر العربية (قراءة في خطاب التأسيس)
يبدو أن الدكتور متأثر كثيرا بالسجال الذي يدور حول شرعية قصيدة النثر , فنجده مدافعا عنها ومبررا لها في أكثر من موضع ولكن بموضوعية نقدية وبدون أي تعصب , ربما تضامنا معها على أنها نص حداثوي ظلمه النقد ,وعلى كل حال فإن الباحث يقدم مجموعة من المقالات والرؤى التي تبنتها بعض المجلات مثل مجلة شعر , ومجلة الكلمة وآخرون للنظر في بدايات الخطاب النقدي لقصيدة النثر بين مؤيد ومعارض لها على أن من يناصر القصيدة كان يحاول أن ينظر لجذورها في الأدب العربي ليدعم شرعيتها على إن أغلب تلك النقود انمازت بالانطباعية وغياب الرؤية النقدية الثاقبة ولكنها شكلت على حد تعبير الباحث نواة الخطاب النقدي الذي بدأت تظهر ملامحه في النقدية العربية.
المحور الثاني: الشعر العراقي المعاصر أجيال وأسماء..
يختلف عمل الباحث في هذا المحور عن عمله في الأول يتحدد في هذا المحور بالشعر العراقي المعاصر وتناول بعض الأسماء اللامعة فيه , يتناول مجموعة من النماذج التطبيقية لمجموعات شعراء تلمس من خلالها الرمز والعقيدة وصولة الخيال , في بداية هذا المحور يتناول عمل المخيلة في تجربة عماد جبار الشعرية يعالجها بتتبع اسلوبية الشاعر في منجزه الشعري يتتبع الاستعارات والتشبيهات والثيمات , ثم ينتقل لتتبع الثنائيات في مجموعة صدى في زمن الغربة لوليد حسين ثنائية التحدي والتفاؤل والحزن والأمل يتلمس الباحث في تلك النصوص الثيمات الفاعلة واستعمال المفردة بدقة لتمثل الواقع مرة وتحديه أخرى ثم يقدم قراءة نقدية في شعرية الخوف في (الوقوف والتقاطع) للشاعر ياسين حافظ قراءة تضع اليد على سمات فنه الشعري في الموضوع والأسلوب ثم ينتقل إلى علم من أعلام الشعر العراقي, السياب الدين والرمز والقناع والتناقض في العقيدة كانت من أولويات البحث يتتبع الباحث جاءت تلك الدراسة بمقدمة ومبحثين تحدثت المقدمة عن مكانة السياب وتجربته الشعرية وتميزها على الساحة الأدبية المبحث الأول تحدث عن الرمز الديني لدى السياب , لم يعرف عن انه كان متدينا إلا أنه كغيره من الشعراء كان قد أكثر من الإشارات الدينية بسبب ما تحمله من دلالات مكثفة تحمل شحنات شعورية, وقد برزت في قصائده إشارات تعود الى الدينين الإسلامي والمسيحي.
وبعد أن رصد الباحث تلون الخطاب السيابي الشعري بالرمز الديني يعود ليتلمس التناقض الديني في عقيدته بين اعتراء الشكوك والظنون أحيانا والإيمان بالقدر في أحيان أخرى , وقد تتلمس في بعض نتاجه شخصيات لا تعبأ بالمبادئ والقيم الدينية والاجتماعية احتواء تلك النصوص على العنصر الدرامي هو الذي دفع ببعض الباحثين إلى الربط بين هذه الشخصيات وحياة السياب , شخصية المخبر وشخصية حفار القبور تجعلك تشعر بذلك الازدواج الذي لم يستطع الإفلات منها.
المحور الثالث: (مقاربات في التراث الشعري العربي)
امتدت الدراسة على جدار الشعر الأخضر لتشمل العصر الأموي والالتزام في القصيدة العربية وقد يسأل سائل ما لرابط أو لم القفز من الحداثة إلى العصر الأموي؟ فقد أراد الباحث أن الشعر على مر العصور كان قد ساير جميع مراحل التأثير في المجتمع العربي ذاكرا على سبيل المثال أن بيتا من الشعر يرفع قبيلة وآخر مثله يخفض قبيلة وفي ضوء ذلك يعمد الباحث الى دراسة ما رسمه الشاعر الأموي في عصره الحافل بالأحداث السياسية والاجتماعية والفكرية ثم يعرض مجموعة من الوان الالتزام منها الفني والقبلي والاجتماعي ثم يخص الشاعر الشريف المرتضى ببحث في لغته ونتاجه الشعري منطلقا من قناعة تامة أنه شاعر مجيد لم ينل اهتمام النقاد القدامى وظل بعيدا عن القراء فاختار الحفر في مدونة هذا الشاعر .
وأخيرا فإن هذا الكتاب يعرض بأسلوب أكاديمي مادة دسمة للباحثين في الأدب واضحة الفكرة بلغة تعليمية تجعل منه ثروة لا غنى عنها في تتبع مسيرة الشعر بالأخص في تحديه لإثبات شرعية قصيدة النثر والتعرف إلى بداياتها وأهم شروطها وأعلامها .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة