فيما كانت السيارة تغذ السير باتجاه الشمال متوجهين إلى الموصل .. كان سيل من الافكار يجتاحني عما ساشاهده في هذه الرحلة .. ولم يكن يقطع تلك الافكار سوى كثرة الحفر المنتشرة على طول الطريق ، وأفراد السيطرات الذين كانوا يلوحون لنا بأيديهم تحية .. ،..اخذنا الطريق عبر مدينة بيجي تلك المدينة التي شهدت اعتى المعارك واشرسها حتى بدت وكأنها مدينة للاشباح والجن ، بعد ان خلت من اهلها تماماً اذ لم يبق فيها شيء سليم حتى الجامع الكبير انقلب على رأسه وتناثرت اشلاؤه في ارجاء المكان .. ثم ها نحن نصل إلى الكيارة وندخل سوقها الرئيس .. بدت الحياة في تلك المدينة طبيعية إلى حد ما فثمة مجاميع من التلاميذ والتلميذات يعودون إلى بيوتهم حاملين حقائبهم ، والمطاعم فتحت ابوابها وفيها رجال محليون يتناولون الكباب بتلذذ ، وكم تمنينا ان نشاركهم لحظاتهم تلك بعد ان داهمتنا رائحة الكباب ، ولكن سيف الوقت حرمنا من تلك اللذة .. كان الطريق الممتد بين الكيارة وحمام العليل لم يصب بأذى ، وهذا ماساعدنا على السير بسرعة اكبر .. بدأنا نقترب من مخيم النازحين القابع فوق اكتاف حمام العليل على مبعدة 30 كيلو مترًا جنوب مدينة الموصل .. ومن بعيد شاهدنا الخيام البيض وهي تنتشر على مساحة واسعة من الارض المنخفضة وحين وصلنا إلى البوابة شاهدنا الاعداد الكبيرة من النازحين وهم في هرج ومرج وثمة عدد من رجال الشرطة كانوا يحاولون فرض النظام ولكن من دون جدوى ، وشاهدنا ضابطاً كبيراً يجلس على كرسي عند البوابة وهو منشغل بمكالمة هاتفية واذ توجهنا نحوه لنسأله عن الادارة ابتعد عنا ليكمل مكالمته !! ..
وخلال انتظارنا الضابط لدقائق ، لفت نظري خلال تلك الدقائق رجل ستيني يرتدي الغترة والعقال وهو يركض يميناً ويساراً والدموع تنهمر من عينيه ، سألته عن سبب بكائه ، قال بصوت متهدج : ابحث عن عائلتي اذ كنت اعتقد انهم هنا ولكن لم اجد لهم أثراً ولا اعلم ان كانوا احياء ام أمواتاً .. حاولنا تهدئته فاشاح بوجهه عنا باكياً ناشجاً .. ونحن نشق طريقنا بصعوبة بين سكان المخيم الذين بدأوا يتجمعون حولنا بكثافة ، شاهدنا بعضهم يعرض مواداً غذائية مختلفة للبيع ولا اعلم من الذي يشتري هذه المواد ؟ .. المهم وصلنا إلى الادارة وهم يمثلون الحكومة المحلية لناحية حمام العليل التي نقلت جميع مهام عملها إلى المخيم .. يقول مدير المخيم ان لدينا هنا اكثر من 220 الف اسرة وهو عدد كبير ولكن على الرغم من هذا العدد الكبير الا اننا استطعنا ان نؤمن احتياجتهم بنسبة 80% اما الكهرباء فهي متوفرة على مدى 24 ساعة .. كنا نريد ان نوزع تلك المساعدات التي جلبناها معنا على ساكني المخيم .. ولكن عبثاً كنا نحاول اذ اجتمع الناس من حولنا ولم يمنحونا فرصة للحديث معهم .. كان كل واحد منهم يريد ان يروي معاناته .. كانوا يشكون قلة المؤن على الرغم من توفر الكثير منها في المخازن .. شكوا لنا قلة الادوية في المركز الصحي الموجود لاسيما ادوية الامراض المزمنة .. اما الاطفال الذين حرموا من دراساتهم فلهم حكاية أخرى ، كان همهم الحصول على الاموال من زوار المخيم ..تزايد الناس من حولنا وهم بين شاك ومتبرم وناقم وآخر مازال يأمل بالعودة إلى بيته .. وازاء تلك المأساة ذات الزوايا الحادة يبقى كل جهد قاصرا لتعويض هؤلاء الناس شيئاً مما فقدوه ، واذا كان الناس فيما مضى يذهبون إلى حمام العليل للاستحمام في مياهه المعدنية من اجل الشفاء من الامراض .. ها نحن ذهبنا إلى حمام العليل وعدنا محملين بالهموم والالام .. حقاً انها رحلة الالم والمأساة والقسوة.
عبدالزهرة محمد الهنداوي
قسوة حمام العليل!
التعليقات مغلقة