أعمال فولكنر الكاملة في «لابلياد»:
محمود عبد الغني
عاد العالَمُ القصصيّ والروائي للكاتب الأميركي ويليام فولكنر (1897-1962) ليقف تحت دائرة الضوء من جديد مع نشر «لابلياد» الفرنسية، المتخصّصة في نشر الأعمال الكلاسيكية الكُبرى، لمجلد ضخم يضُمُّ قصص صاحب «الصخب والعنف» في حجم بلغ 1814 صفحة. بدأت تتناسل أسئلة كثيرة، منها القديمة ومنها ما تُطرح لأوّل مرة، أهمُّها أن عالم فولكنر لا ينحصر في رواياته «البعوض» (1927)، «الصخب والعنف» (1929)، «بينما أرقد في حضرة الموت» (1930)، «أبشالوم، أبشالوم» (1936)… لكن هذه الروايات لا بد أن تحضر في ذهن القارئ وهو يقرأ هذا المجلّد القصصي الضخم. لهذا نصح الصحافي والكاتب الفرنسي «ماثيو ليندون» قُرّاء رواية «أبشلوم، أبشلوم» استحضار شخصية «كانتان» التي تحضر بطريقتها في القصص.
غالباً ما يتمُّ طرح تساؤلات حائرة بخصوص الأعمال الكلاسيكية الكبرى، في مقدمة تلك الأسئلة: بأي عمل يُستحسن أن نبدأ حين نريد قراءة كاتب ما من حجم فولكنر أو بلزاك أو بروست مثلاً؟ سنأخذ مثالاً الناقد والروائي البلجيكي «فيلسيان مارسو» (1913 – 2002) الذي رسم لقُرّاء بلزاك خطّاً عليهم اتباعهم من أجل فهم صحيح لعالم بلزاك الروائي: «بالنسبة للذين لم يقرأوا حرفاً واحداً لبلزاك، لا مجال لهم للتردُّد: يجب البدء برواية «الأب غوريو»، ثم يتابع بقراءة «الأوهام المفقودة» ثم «إشراقات». والذين قرأوا بلزاك بطريقة أخرى لا ينتابهم القلق. مع بلزاك، نستمتع دائماً. لكن مع «الأب غوريو» نستمتع بسرعة» (من مقدمة رواية «الأب غوريو»).
من أين نبدأ قراءة الكُتّاب الكبار؟
لماذا نصح «فيسليان مارسو» قُرّاء بلزاك بالشروع برواية «الأب غوريو»، في حين أن «أوجيني غراندي» و»جلد الحزن» هما أولى رواياته؟ ولماذا نصح «ماثيو ليندون» قراء فولكنر بالبدء بقصصه القصيرة قبل الانتقال إلى رواياته الأخرى ذات الصيت الشائع؟ الجواب السريع هو كون «الأب غوريو»، في حالة بلزاك، بوتقة تضمُّ كلّ عالمه وشخصياته، وموضوعاته، ومشاعره، وتطوّره، ومسعاه. أما رواية «أوجيني غراندي»، التي عادة ما يبدأ بها القُرّاء مسيرة تعرُّفهم إلى بلزاك، فهي رواية مغلقة، مخنوقة، وبذلك فهي معدومة العلاقة مع باقي رواياته. وبذلك يُنصح بعدم الشروع بها. وفي حالة فولكنر، يتساءل «ليندون» حائراً: «بأي عمل نشرع في قراءة فولكنر؟ هل بالقصص القصيرة التي ترفُدُ الروايات أم بالروايات التي ترفُدُ القصص القصيرة؟».
للإجابة على هذا السؤال الكبير يعود «ليندون» إلى المقدمة التي كتبها الكاتب والصحافي الفرنسي «فرانسوا بيتافي» (1955 – …) في مقدمته لطبعة «لابلياد»، مستشهداً بجمل كتبها فولكنر لـ»جان ستاين» سنة 1956: «أنا شاعر فاشل، رُبّما الروائي يرغُب في البدء بكتابة الشعر، فيكتشف أنه لا يستطيع ذلك، فيلجأ إلى القصة القصيرة التي هي الشكل الأدبي الأكثر تطلُّباً، بعد الشعر. وبعد أن يفشل مرة أخرى ينتقل إلى الرواية».
المال هاجس قصصي
يضيف «ليندون» أنه ينبغي عدم تصديق ما يقوله فولكنر، حتى عندما يقول إنه كتب القصص بغرض المال. فالقصص كانت بالنسبة إليه مصدراً مالياً مهمّاً أكثر من الرواية. إضافة إلى أنها لا تتعبه كثيراً مثلما كان يتعب عندما يكتب السيناريو لسينما هوليوود.
قسّم «فرانسوا بيتافي» مسار فولكنر إلى مرحلتين: 1929-1931، ومن منتصف الثلاثينيات إلى سنة 1942. وبعد جائزة نوبل التي نالها سنة 1950، والتي كانت مصدراً مالياً كبيراً، لم يعد فولكنر «يكتب شيئاً تقريباً». «إن جريان الدم بين القصص والروايات لا يقف عند الشخصيات، يضيف فرانسوا بيتافي، فالقصص تساهم عند فولكنر في خلق عالم تخييلي واحد، صادر عن منجم الذهب نفسه». ولذلك، فقبل أو بعد الروايات، ليس مهمّاً، يجب في كل الحالات قراءة القصص، لأنها مصدر سعادة، لأن هذه المختارات القصصية تشكّل نصّاً رائعاً، تؤكّد طبعة «لابلياد».
الوجه الآخر من هذه الوحدة بين السرد القصصي والسرد الروائي، أو وحدة «جريان الدم عبر نفس العروق»، مصدرها كون جل روايات فولكنر كانت في الأصل قصصاً، كما جاء في مقدمة ترجمة «موريس إدغار كواندرو» لرواية «الصخب والعنف» سنة 1937: «قال لي ذات يوم ويليام فولكنر إن هذا الرواية كانت في الأصل قصة قصيرة». وعنوان الرواية مقتبس من الجملة الشهيرة لـ»ماكبث» حين عرّف الحياة قائلاً: «إنها حكاية، يحكيها شخص بليد، مليئة بالصخب والعنف الذي لا يعني شيئاً».
لماذا ليست قصصاً كاملة؟
لماذا يحمل مجلد «لابلياد» اسم «قصص» وليس «القصص الكاملة»؟ يتساءل «ليندون»، خصوصاً أن المتن يصعب تحديده بدقّة. يحمل الجزء الكبير من المجلّد اسم «مختارات قصصية»، مقسّم إلى ستة فصول: «القرية»، «المدينة»، «الغابة المتوحشة»، «الأرض الوهمية»، «بين عالمين» و»ما وراء». بالنسبة للقارئ الفرنسي الأمر يتعلّق بـ 42 قصة من بين 44 مترجمة قبلاً ضمن مختارات «ثلاث عشرة حكاية»، «الدكتور مارتينو» و»حكايات أخرى» و»قصص مختلفة». غير أن المجموعتين الأوليين نُشرتا على التوالي في الولايات المتحدة الأميركية سنتي 1931 و1934، ونشرهما فولكنر بالفرنسية حين أُتيحت له الفرصة بالتوازي مع نشرها في أميركا سنة 1950، وقد رتّبها حسب رغبته، كما كتب إلى الناقد «مالكوم كاولي»: «حتى بالنسبة لمجموعة قصصية، فإن الشكل والتماسك ليسا أقل أهمية بالنسبة للرواية: إنها وحدة حُرّة ومستقلّة، تهدف إلى نغمية موحّدة وإلى تماسك طِباقي، يمتدُّ نحو نهاية واحدة، خاتمة واحدة».
لا تتطابق المجموعة «حكايات مختلفة»، التي تعود إلى سنة 1967، مع أي مجموعة أميركية. فهي فقط تقترح نصوصاً من الطبعة الأصلية من «مختارات قصصية»، التي لم تضمّها «ثلاث عشرة حكاية»، ولا «الدكتور مارتينو». إذن، فطبعة «لابلياد» هي الطبعة الفرنسية الأولى التي تتطابق مع ما كان يرغب فيه فولكنر. وقد توجّب على جريدة «ليبراسيون» الفرنسية الإشارة إلى أن كل الترجمات هي مراجعة من طرف فراسوا بيفاتي.
ولأن الفرنسيين اهتموا بطبعتهم الفرنسية لهذه الأعمال فقد محّصوا في مسألة التغيرات التي تلحق بأعداد القصص. يتساءل ماثيو ليندون عن عدد القصص: كيف تقلص عدد القصص من 44 إلى 42 قصة؟ ليجيب أنه بعد ظهورها المتعاقب في «ثلاث عشرة قصة» و»الدكتور مارتينو»، أصبحت قصة «الكلب» جزءاً من «ضيعة صغيرة» (1940)، وقصة «دخان» جزءاً من «مناورة الفارس» (1949)، بحيث إن فولكنر استثناها من «مختارات قصصية». وانطلاقاً من ذلك سنفهم أيضاً لماذا أي مجموعة قصصية، فرنسية كانت أو أميركية، لم تصبح مجموعة كاملة.
ردُّ الدّين
ظلّ الفرنسيون يردّون الدين لويليام فولكنر وجيمس جويس. فهل ننتظر منهم، بواسطة الطبعة الأدبية الكلاسيكية «لابلياد»، نشر أعمال جويس؟ فأحد كُتّابهم هو القائل:»إننا جميعاً متأثرون بجويس رغم أننا لم نقرأه». أي أنه من نوع الكُتّاب الذين تتم وراثتهم من دون إرادة.
قال الصحافي والكاتب بيار أسولين: «فولكنر، سيد، في فرنسا على الأقل. فلطالما سمعنا من أفواه كتابنا احتفاء، أو اعترافاً بالدّين في حبر أقلامهم. ولا نقلّل من شأنهم إن اعتبرناه كاتباً من أجل كلّ الكُتّاب».
للفرنسيين اعتقاد راسخ بأن فولكنر جعل من مكانه (حيزه الجغرافي) مكاناً عالمياً. وهم يقدّرون هذه القيمة في أدبهم. ألم يقل شاعرهم بودلير «باريس مدينة صغيرة وهذا سرُّ اتّساعها»؟ إنها عقيدة راسخة. إن «فولكنر هو بلزاك في القرية»: كل شيء لحم، أرض، كل شيء ملموس ومادّي، وفي نفس الآن روحي.
وهناك من الكُتاب من ندم على اكتشاف فولكنر متأخّراً. فـ»باتريك بوسّون» يقول إنه اكتشفه في سن الـ 45 ولم يكن من السهل التأثُّر به وإرادة الخروج من أسر تأثيره. وهذا الاعتراف يذكرنا بالكاتب الأميركي ويليام ستيرون (1925-2006) الذي قال إنه كتب «السير في الليل» للتخفف من ثقل العبقرية الفولكنرية التي تأثّر بها. وراوية «السير في الليل» تحكي عن عقليتين في حالة حرب: الأولى لرجل مدني، وآخر عسكري في البحرية الأميركية.
تعلّم الطاهر بنجلون من فولكنر الشيء الكثير. يقع في مقدمة هذا التأثر تلك الطاقة التي تبرز من أعمال فولكنر. طاقة العمل التي بُذلت، ورغم ذلك يظلُّ الكاتب غير مقتنع بنتائجها. فيستمر في بذل مزيد من الطاقة دون توقف. من هنا يولد الأدب العظيم. ويعترف بنجلون بأن تلك الطاقة اللانهائية بذلها جويس أيضاً في كتابة «أوليس». هذا إذا أراد الكاتب أن يفكّك الحقيقة والألم الإنسانيين.
*نقلا عن موقع ضفة ثالثة