«جند السماء» سبقوا الصرخي في تحركات خارج تقاليد الحوزة
بغداد – خاص:
لم تكن تحركات رجل الدين المثير للجدل، محمود الصرخي، بشأن «السيطرة» على المراقد الشيعية، الأولى من نوعها في العراق، كان «جند السماء» قبل سبع سنوات يخططون لذلك.
وخلال السنوات الماضية يعرف سكان المحافظات الجنوبية، أن جند السماء، أو أتباع الصرخي، أشخاص يعيشون العزلة، درجة أن قبائل تلك المناطق تمنع الاختلاط معهم، بل والزواج منهم.
في شتاء 2006، اختفى مدير المركز الصحي في بلدة القاسم (جنوب بابل)، وقال السكان إنه باع منزله وسيارته الخاصة ورحل مع عائلته.
بالنسبة لهذه البلدة الصغيرة، حيث تتحكم الروابط الدينية والقبلية بحياة الناس، من الصعب أن يقرر أحد الرحيل من دون أن يعرفوا السبب.
قبل أن يكتشف أصدقاء الطبيب «الغامض»، سر اختفائه المفاجئ، اختفى آخرون من البلدة، وبالطريقة ذاتها.
يقول السكان إنهم جميعاً «شباب، مثقفون، يملكون شهادات جامعية، ويعيشون في البلدة حياةً مرفهة». وما يزيد غرابة الناس قولهم إن «المختفين» تغيّروا في الشهور القليلة التي سبقت اختفاءهم، من ناحية «تدينهم وعقائدهم».
في السوق الصغير المحيط بمرقد الإمام القاسم، كان «رياض» يقفل محل بيع القماش الذي ورثه عن أبيه. كان أهل السوق يسألونه عن سبب تركه المحل، بينما يجيب، «سأسافر للعلاج».
اختفى رياض من البلدة الصغيرة الساكنة، مع جميع أفراد أسرته، وبدا منزله مهجوراً.. لا ضجيج لأطفاله الثلاثة، ولا إنارة تنبعث من الغرف.
ظل الناس في حيرة من أمر المختفين، حتى يوم 27 كانون الثاني 2007.
في الصباح الباكر، كان الناس يخرجون من بيوتهم ويتجهون نحو مرقد الإمام القاسم، بدوا أنهم على عجلة من أمرهم، بينما الصبيان يسرعون بدراجاتهم النارية في الطرقات الفرعية المؤدية للمرقد.
من بين السكان المحليين، كان أحمد جياد، يخبرني بأن «كتاباً غريباً» عثر عليه في محيط المرقد.
وصلنا السوق، وكان الناس يقفون في تجمعات لم تشهدها البلدة سوى في أيام الزيارات الدينية، كانوا يتلقطون من الأرصفة وأبواب المحلات التجارية نسخاً من كتاب، عليه صورة رجل معمم، وكتب عليه «قاضي السماء».
تمكن بعض السكان من تهريب نسخ من الكتاب إلى منازلهم، قبل أن يطوق عناصر الاستخبارات المكان، ويصادروها.
تلك الليلة تجمع رجال ووجهاء البلدة في منزل مدرس للغة العربية تمكن من تهريب نسخة من الكتاب، الدعوة لهذه الجلسة كانت سرية، بينما المدعوون قلقون من أن حدثاً جللاً سيصيبهم.
كانت أصوات أقداح الشاي تلف «المجلس»، بينما مدرس اللغة العربية يقرأ مقدمة الكتاب، «المهدي يظهر في العراق»، «وقاضي السماء يخرج من كرعه». في الحقيقة، لم يجد الناس تفسيراً سوى أن مؤلف الكتاب يريد أن يقول إن المهدي من قبيلة «الكرعاوي». وهذا بالنسبة لشيعة ناحية القاسم، بل للشيعة عموماً «كفر مبين».
لكن، استخبارات بابل فعلت ذات الشيء الذي قام به السكان المحليون، وضعت كتاب قاضي السماء على طاولة اجتماع «امني» استمر لأيام، قبل أن تتوصل إلى «مخطط تقوده جماعة شيعية تسمي نفسها جند السماء»، يقودهم شخص يدعى أحمد كاظم الكرعاوي البصري.
يقول آخرون إن اسمه «سامر أبو قمرة»، فيما تتحدث أنباء أخرى عن أن اسمه «كاظم عبد الزهرة».
وتتضارب الروايات بشأن الخلفية الاجتماعية لقاضي السماء، لكن هناك من يقول إنه «كان طالباً في إحدى المدارس الدينية في مدينة النجف إبان حكم نظام صدام حسين، واشترى في العام 1994، عشر مزارع من مزارع منطقة الزركه شمال مدينة النجف، تقع على مساحة 100 دونم، قام بعدها بتسييج تلك المزارع بثلاثة حواجز ترابية بحيث لا يرى المار في تلك المنطقة ما بداخل تلك المساحة».
واعتقل في إيران بعد مغادرته العراق، إذ زعَّم نفسه هناك أحد «سفراء» الإمام المهدي، وعاد بعد الإفراج عنه إلى العراق، حيث أسس تجمعاً دينياً في مدينة البصرة سماه جند السماء، ودعاه بـ»سفارته>» مرةً أخرى وقاد جماعته إلى المناطق المجاورة لمدينة النجف.
وأياً كان اسمه، فقد لقب نفسه علي بن علي بن أبي طالب، وأطلقت عليه جماعته اسم «المهدي المنتظر»، وهم يشتكون من أن شيعة إيران لا يسمحون ببناء مدارس أو مساجد لهم في مناطقهم على مذهبهم.
بينما كان الجميع يبحث في سر «قاضي السماء»، وصل وكيل للمرجع الديني في النجف، علي السيستاني، إلى بلدة «القاسم»، ووقف على منبره، ليقول، «كتاب قاضي السماء.. كتاب ضلالة».
في مدينة الحلة، مركز محافظة بابل، كان ضباط الأمن في حالة استنفار، لقد توصلوا أخيراً، إلى «ساعة صفر لهجوم محتمل» على النجف وكربلاء.
وقال ضابط استخبارات في بابل، إن «قائد تنظيم جند السماء خطط لاحتلال مرقد الإمام علي بن أبي طالب بالنجف، وقتل أو اختطاف المراجع الشيعية البارزة في يوم عاشوراء الذي كان يصادف يوم الثلاثاء 30 كانون الثاني 2007».
ويضيف، «لقد قررنا الهجوم عليهم قبل هذا التاريخ يوم واحد».
صباح يوم 29 كانون الثاني 2007، كان مظفر عليوي، وهو شرطي مناوب في نقطة تفتيش على الطريق العام المؤدي للنجف، يراقب سيارة حمل كبيرة تحاول الانحراف من الشارع إلى طريق ترابي يؤدي إلى منطقة «الزركه».
لاحقاً، قال الشرطي إنه ليس من الغريب أن تنحرف العجلات الكبيرة إلى الزركه، لأنها منطقة لزراعة الطماطم، وبشكل يومي يدخل تجار الخضروات لتحميل صناديقها.
لكن ما دفع عليوي إلى حمل سلاحه والتوجه إلى السيارة الكبيرة هو أنها «غطست في الرمال على الرغم من أنها تحمل (البوه)، وهي التسمية الشعبية لرزم القش. في الحقيقة، شعر عليوي أن السيارة لديها حمولة ثقيلة.
سرعان ما طلب عليوي مساعدة الاستخبارات، وحين وصل الدعم، ألقي القبض على شخصين كانا يقودان العجلة، بينما «البوه» يغطي أسلحة ورمانات، وعتاد.
بعد نحو ساعة، بدأت معركة «الزركه».
في الطريق الرئيسي الذي يربط الحلة بناحية «الكفل»، كان قيس المعموري، قائد قوات العقرب، الذي قتل لاحقاً بتفجير عبوة ناسفة داخل مكتبه، يتجه بسيارته «الهمفي» نحو منطقة «الزركه».
كان المعموري ضابطاً يحظى باحترام كثيرين، بينما يحب جنوده القيام بأعمالهم بحماس كبير حباً به.
يطالع المعموري خارطة لمنطقة، وهاتفه العسكري يتلقى معلومات متسارعة عن تحركات الوحدات العسكرية لمحاصرة «الزركه»، حيث كان يعتقد بأن اتباع قاضي السماء يتمركزون فيها. لقد قرر الجيش اكتساح المنطقة، قبل يوم واحد من تحرك جند السماء إلى النجف.
عند حاجز ترابي في منطقة الزركه، بالقرب من منطقة مرقد الإمام «زيد بن علي»، وقف المعموري وهو يرسل وجبات من جنود مشاة بعضهم قناصون إلى داخل المنطقة. في الحقيقة من كل 20 جندياً كان يعود أقل من 7 جنود. وعلى ما يبدو فإن جند السماء مدربون على القتال، ويملكون أسلحة نوعية.
لم تحسم المعركة إلا بعد وصول المروحيات الأميركية فوق المنطقة، حيث ضربت مواقع المسلحين التابعين لـ»قاضي السماء».
لاحقاً، هدأت المعارك واقتحم الجنود المكان، كان الموقع أشبه بثكنة عسكرية كبيرة. ثمة صف طويل من الغرف الطينية، وقاعات كبيرة، للطبابة والمؤن الغذائية، بينما الجثث المحترقة في كل مكان. وقالت مصادر طبية وأمنية أن نحو 700 شخص من «جند السماء» قضوا في نحو ساعة ونصف من المعارك.
لقد تعامل الشيعة، والمؤسسة العسكرية في تلك المناطق برد فعل عنيف ضد تحركات دينية «تخرج على الخط التقليدي لمرجعية النجف».
وأخيراً، كان ضباط الجيش قرروا حصار مقر الصرخي، قتلوا العشرات من اتباعه، بينما أظهرت صور مختلفة كيف «تعرض الناجون من الاشتباكات إلى التعذيب».
الناجون من معارك «الزركه»، في نهاية المطاف، جرى اعتقالهم لينقلوا إلى دائرة الاستخبارات المحلية في مدينة النجف.
حي «السعد»، بلدة صغيرة وسط مدينة النجف، يسكنها مدرسون وأساتذة جامعيون، لكن لم يعرف لماذا اختارت الاستخبارات هذا الحي مكاناً لاحتجاز اتباع «قاضي السماء».
في ساحة كبيرة، متطرفة عن مركز البلدة الصغيرة، كان المعتقلون محشورين في «كرفانات»، بعضهم نساء وأطفال، وكان رجل الأمن الذي رافقنا حريصاً على أن لا نتحدث معهم.
في بلدة «القاسم»، وبعد عام من حادثة الزركه، كان السكان يتوجسون من الناجين الذين عادوا إلى بيوتهم، ومنذ ذلك الحين يعانون العزلة، لأن السكان يخشون الاختلاط بهم، بسبب «أفكارهم»، وشعورهم بأنهم من «الخوارج». فالشيعة في مناطقهم لا يسعهم تقبل أن أحدهم يخرج على النجف بسلاح، ولو كان من أبناء جلدتهم.
يقول أصدقاء مدير المركز الصحي في «القاسم»، «ما الذي كان ليحدث لو أن جند السماء احتلوا الحضرة العلوية وقتلوا المراجع».