حسين مروّة.. الناقد الواقعي

سعيد عدنان

وقد مرّت ثلاثون سنة على يوم مقتله !
كان حسين مروّة من ألمع من زاول النقد الواقعيّ ، ومن أرصنهم موقفاً ، وأقدرهم على تذوّق الفن الرفيع ؛ أتى إلى « الواقعيّة « من تمرّسه بالحياة ، وصعابها ؛ ولم يأتها من الكتب وحدها . ولد في جبل عامل ؛ من لبنان ، في سنة 1908 ؛ وكان أبوه رجل دين ، يحبّ الأدب ، ويقرض الشعر في ما يعرض له من شؤون ، ويريد لابنه حسين أن يسلك مسلكه ، وأن يخلفه في عمامته ، ومنزلتها ؛ إذا حان أجله ؛ ولكي يجعلها تستقر على رأسه ؛ فقد أسرع بها إليه وهو طفل صغير ؛ فأثقل بها خطواته ، وجعل منه شيخاً قبل الأوان . غير أنّ الأب لا يُمهَل حتّى يرى في ابنه ما يُحبّ ، بل يُعجله الداعي فيجيب ، ويدع ولده وحده في مطلع الدرب ، ولمّا يصلب عوده بعد . غير أنّ أشياء من آمال الأب بقيت حيّة في نفس الابن ؛ ترسم له الطريق ، وتدعوه أن يسلك مسلك الدراسة الدينيّة ، وأنّ يتمّ ما بدأ به . وكان قد استوفى ما تتيحه له بلدته من دراسة ومعرفة ، وشرع يتطلّع أن يرتحل حتّى يتمّها ؛ وهل تتمّ دراسة من دون رحلة ! ورحلة أمثاله لإتمام دراستهم ؛ إنّما تكون إلى النجف ؛ فهيّأ نفسه بنحو ما ، وغادر بلدته ، وسلك طريقه . وأقبل ، حين بلغ النجف وهو فتى في العقد الثاني من عمره ، على درسه منتظماً في حلقاته ، مفرغاً فيه جهده ، ووقته ؛ وقد عرف فيه شيوخه ، وزملاؤه حسن الفهم ، وجودة الاستيعاب ، وبيان الحجّة . ولكنّه مع الفقه والأصول وما يتّصل بهما ، كان يلمّ بالأدب قديمه ، وحديثه ، ويأخذ بقراءة المجلّات كالهلال ، و المقتطف ، ويتناول كتباً حديثة ذات نزوع فكري ؛ كانت تصل النجف ، وتجد من يسأل عنها ، ويقرؤها . كان يقرأ ، مع الفقه والأصول ، طه حسين ، والعقّاد ، وإسماعيل مظهر ، وسلامة موسى ؛ وكان لابدّ لتلك القراءة الواسعة من أن تكون مبعث أسئلة ، ومدار حوار ؛ وأن تلقي ضوءاً على ما يقع من حوادث . وربّما استفزّت أسئلته الآخرين فانقبضوا عنه ، وربّما وجد فيها غيرهم شيئاً من صدى نفسه فأقبل عليه ، غير أنّ من نفروا من تلك الأسئلة كانوا أكثر ممّن أساغها . واضطرب أمره شيئاً ما ، بيد أنّ إقباله على دراسة الفقه والأصول لم يفتر ، وحافزه نحوها لم يهن ؛ مع زيادة في قراءة الأدب ، ومزاولة الكتابة والنشر في صحافة النجف . ثمّ رأى أنّه قد استوفى ما يريد من دراسته ، وقد أمضى معها سنين ، وآن له أن يخرج من أفقها ، إلى أفق آخر مدني ؛ يزاول فيه الفكر والأدب ، ويكتب في الصحافة كتابة منتظمة . وكان قد عرف ( الهاتف ) وعرف صاحبها جعفر الخليلي ، وطفق يكتب فيها مقالات أدبيّة ؛ وكان له صاحب ، من بلدته ، هبط النجف قبله ، وانتظم في دراسته ، ثمّ مال إلى الأدب والفكر ، وزاول الكتابة والنشر ، وكان كلٌّ منهما يشدّ أزر صاحبه ، ويكون له عوناً، وكانا يلتقيان على صفحات ( الهاتف ) ، وعلى صفحات غيرها من الجرائد والمجلّات؛ وقد عرف الناس مابين حسين مروّة ، ومحمّد شرارة من منحى يشتركان فيه، ويسعيان في مضماره .
أحبّ العراق ، وأحبّ أهله ، واتّسعت علاقته بالناس ، وبالصحافة ؛ بعد أن سكن بغداد ، وعمل في التعليم ؛ زيادة على عمله في بعض الصحف كالأهالي ، والحضارة ، ثمّ نال الجنسيّة العراقيّة ، وكان قلمه ، وهو يكتب ، مع الحركة الوطنيّة في أهدافها السامية ؛ محاربة الاستعمار ، والعدالة الاجتماعيّة . وربّما غلبت ، في هذه الحقبة من حياته ، السياسةُ الأدبَ ؛ لكنّه لم ينقطع عن قراءة الآثار الأدبيّة ، والكتابة عن بعضها.
ولم يزاول السياسة ، يومئذٍ ، من خلال حزب ما ، ولكنّه زاولها بمعناها الوطني العام الذي يرفض الاستعمار ، ويرفض من يجري في ركابه ، ويريد للشعب عيشاً كريماً ؛ ولمّا قامت انتفاضة 1948 ، كان حيث كانت الحركة الوطنيّة صوتاً ، وقلماً ، وتظاهراً مع المتظاهرين ؛ حتّى تمّ للانتفاضة بعض ما تريد ، وأُسقطتْ معاهدة بورتسموث . وكان لا بدّ أن يُستوفى منه ! وأن تجازيه السلطة على موقفه ؛ فما أن تولّى نوري السعيد الوزارة مرّة أخرى ، في سنة 1949 ، حتّى أسقط عنه جنسيّته العراقيّة ، وأرجعه إلى لبنان ؛ لتنطوي صفحة من حياته أمضاها في العراق ؛ تزوّد فيها زاداً حسناً من التراث الإسلامي ، وتزوّد زاداً آخر يتّصل بالعصر وروحه ؛ وسيبقى الزادان مدداً له في حياته كلّها .
وكان عليه أن يستأنف حياته في لبنان ، وأن يُعيد علاقاته مع محيطه الذي غادره قبل سنين ، وأن يزاول العملين اللذين يحسنهما : الصحافة ، والتعليم . وشرع يكتب في جريدة ( الحياة ) بما يتناول قضايا الأدب والفكر ، وقد اتّضح منهجه ، وثبت قلمه ، واستقامت له رؤية تصل بين الأدب والواقع ، وتحفظ على الفن عناصره . واطّرد نهجه ، ورجع إلى الأدب العربيّ ؛ ينظر فيه وبيده مصباح يريه من وقف مع الإنسان ، ونصره على ظالمه ، ومن أتى بالجديد الأصيل معزّزاً الإبداع والأصالة ؛ فكان كتابه : ( عناوين جديدة لوجوه قديمة ) .
وعنده أنّ الأثر الأدبي لا تنفكّ صلته بالواقع ، وأنّ عروقه ممتدّة في الأرض التي نشأ فيها ؛ يقول : ( إنّ العمل الأدبيّ لا يمكن أن تتشكل بنيته التعبيريّة ، أو أن تتشكل خصوصيّته الفنيّة ، دون أن تتشكل هذه البنية ، أو هذه الخصوصيّة كصورة ما عن العالم ، أي كعلاقة ما بين العمل الأدبيّ والعالم ، أو بين ذات الأديب المبدع ومصدر عمله الإبداعي الذي هو العالم ، أي الواقع القائم خارج الذات .)

*مقطع من بوست طويل

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة