ستيفن س. روتش*
ليس من السهل أبداً مقاومة إغراءات الاستقراء والتخمين. ويفرض هذا الميل تأثيراً قوياً على الأسواق وصناع السياسات والأسر والشركات. ولكن المراقبين الفطنين يفهمون حدود التفكير الخطي، لأنهم يعرفون أن الخطوط تنحني، أو حتى تنكسر في بعض الأحيان. وهذه هي الحال اليوم في تقييم عاملين رئيسين في تشكيل الاقتصاد العالمي: المخاطر المرتبطة بمناورات أميركا السياسية وحالة الاقتصاد الصين.
بدأ التيسير الكمي (برنامج مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي للمشتريات الشهرية من الأصول الطويلة الأجل)، كمسعى نبيل ــ في التوقيت المناسب وبتفصيل واضح بوصفه الترياق اليائس المطلوب بشدة في مواجهة أزمة موجعة. والواقع أن التصريحات المغايرة تتسم بكونها شائكة ومخادعة دوماً، ولكن من الصعب أن نزعم أن ضخ السيولة في أواخر عام 2008 وأوائل عام 2009 لم يلعب دوراً مهماً في إنقاذ العالم من شيء أسوأ كثيراً من الركود العظيم.
كانت التركيبة التي تألفت من مرافق التمويل الخاصة بمنتجات بعينها والجولة الأولى من التيسير الكمي سبباً في رفع الموازنة العمومية لبنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي إلى 2.3 تريليون دولار بحلول شهر مارس/آذار 2009، من مستواها قبل الأزمة الذي بلغ 900 مليار دولار في صيف عام 2008. وبذلك ذاب الجمود العميق الذي غلف الأسواق التي دمرتها الأزمة.
وقد وقع بنك الاحتياطي الفيدرالي في خطأ الاستقراء ــ إذ تصور أن علاج الصدمة لن ينقذ المريض فقط بل وسوف يعزز تعافيه المستدام أيضا. وبفعل جولتين أخريين من التيسير الكمي تمددت الموازنة العمومية لبنك الاحتياطي الفيدرالي بنحو 2.1 تريليون دولار أخرى بين أواخر عام 2009 واليوم، ولكن العائدات كانت ضئيلة من حيث القدرة على تنشيط الاقتصاد.
ويتضح هذا بجلاء عندما نقارن بين ضخ بنك الاحتياطي الفيدرالي للسيولة والزيادات في الناتج المحلي الإجمالي الاسمي. فمن أواخر عام 2008 إلى مايو/أيار 2014، زادت الموازنة العمومية لبنك الاحتياطي الفيدرالي بما مجموعه 3.4 تريليون دولار، وهذا يفوق كثيراً الزيادة في الناتج المحلي الإجمالي الاسمي على مدى الفترة نفسها. ومن الصعب أن نعد هذا «إنجازاً للمهمة»، كما يزعم أنصار التيسير الكمي. ذلك أن كل دولار من التيسير الكمي ولَّد 76 سنتاً فقط من الناتج المحلي الإجمالي الاسمي.
وخلافاً للولايات المتحدة التي اعتمدت إلى حد كبير على جهود بنكها المركزي لتخفيف التأثيرات المترتبة على الأزمة وتعزيز التعافي، نشرت الصين حوافز مالية بلغت 4 تريليونات يوان (نحو 12% من ناتجها المحلي الإجمالي في عام 2008) لتنشيط اقتصادها الراكد في أوج الأزمة. وفي حين خلفت الحوافز المالية الأميركية بقيمة 787 مليار دولار (5.5% من الناتج المحلي الإجمالي الأميركي في عام 2009) أثراً محدوداً في أفضل تقدير على الاقتصاد الحقيقي، فإن الجهود الصينية أنتجت زيادة فورية وحادة في مشاريع البنية الأساسية «الجاهزة للتشييد» والتي عززت حصة الاستثمار الثابت في الناتج المحلي الإجمالي من 44% في عام 2008 إلى 47% في عام 2009.
ومن المؤكد أن الصين عملت أيضاً على تخفيف قيود السياسة النقدية. ولكن مثل هذه الجهود كانت أقل كثيراً من تلك التي بذلها بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، في غياب سعر الفائدة القريب من الصفر أو التيسير الكمي ــ بل تخفيضات معيارية فقط في أسعار الفائدة (خمسة تخفيضات في أواخر عام 2008) ومتطلبات الاحتياطي (أربعة تعديلات).
والأمر الأكثر أهمية الذي ينبغي لنا أن نلاحظه هو أن بكين لم تشهد حالة من الهوس الاستقرائي. فقد نظر المسؤولون الصينيون إلى تصرفاتهم في الفترة 2008-2009 بكونها تدابير تتخذ لمرة واحدة، وكانوا أسرع كثيراً من أقرانهم في الولايات المتحدة في مواجهة مخاطر السياسات التي تم إطلاقها في أوج الأزمة. أما في الولايات المتحدة فكانت حالة الإنكار عميقة.
وعلى النقيض من بنك الاحتياطي الفيدرالي، الذي ما يزال يرفض التداعيات السلبية المحتملة التي ربما خلفها التيسير الكمي على أسواق الأصول والاقتصاد الحقيقي ــ سواء في الداخل أو الخارج ــ كانت السلطات الصينية أكثر إدراكاً للمخاطر الجديدة التي نشأت في أثناء وبعد الأزمة. وقد تحركوا بسرعة لمعالجة العديد من هذه المخاطر، وخاصة بتلك التي فرضها الإفراط في الاستدانة، والظل المصرفي، والأسواق العقارية.
الآن انتهى المحلفون من اتخاذ القرار حول ما إذا كان المسؤولون الصينيون قد فعلوا ما فيه الكفاية. وفي اعتقادي أن ما قاموا به كان كافياً، وإن كنت أسلم بأنني أمثل وجهة نظر الأقلية اليوم. وفي مواجهة تباطؤ النمو الحالي، فلعل الصين كانت لتعود إلى نهجها السابق المختبر في وقت الأزمة؛ وما دامت لم تفعل ذلك حتى الآن فإن هذا يُعَد مثالاً آخر لاستعداد قادتها لمقاومة الاستقراء والتخمين ورسم مسار مختلف.
لقد نجحت الصين بالفعل على هذه الجبهة من خلال هجر أنموذج النمو الذي قاد عملية تنمية اقتصاد البلاد بنجاح لأكثر من ثلاثين عاما. وقد أدركت الحاجة إلى التحول من أنموذج كان يركز في الأساس على الإنتاج القائم على التصدير والاستثمار فحسب (عن طريق التصنيع) إلى أنموذج يقوده الاستهلاك الخاص (عن طريق الخدمات). وسوف يعطي هذا التغيير الصين فرصة أفضل كثيراً لتجنب «فخ الدخل المتوسط» اللعين، الذي يبتلي أغلب الاقتصادات النامية، ويرجع السبب على وجه التحديد إلى اعتقاد صناع السياسات هناك عن طريق الخطأ أن الوصفة الناجعة لدفع النمو في مرحلة مبكرة كافية لتحقيق مكانة البلدان المتقدمة.
الواقع أن حالة الولايات المتحدة والصين لا توجد في فراغ. وكما أؤكد في كتابي الجديد، يعمل الارتباط المتبادل بين الصين وأميركا كرباط وثيق يقيدهما معاً. والسؤال إذن يدور حول العواقب المترتبة على الاستراتيجيتين المختلفتين في إدارة السياسات ــ الركود في أميركا وإعادة التوازن في الصين.
النتيجة المرجحة غالباً هي «إعادة التوازن غير المتناظر». فمع تغيير الصين لأنموذجها الاقتصادي، فإنها سوف تتحول من المدخرات الفائضة إلى امتصاص المدخرات ــ فتستخدم أصولها لتمويل شبكة الأمان الاجتماعي، وبالتالي تخفف من ادخار الأسر بشكل تحوطي بدافع من الخوف. وعلى النقيض من هذا، تبدو أميركا عازمة على الحفاظ على مسارها الحالي ــ انطلاقاً من اعتقاد مفاده أن أنموذج الادخار المنخفض والاستهلاك المفرط الذي صادف نجاحاً كبيراً في الماضي سوف يستمر في العمل بسلاسة في المستقبل.
لن يخلو الأمر من عواقب في محاولة التوفيق بين هذين النهجين. فبينما تعمل الصين على إعادة توجيه مدخراتها الفائضة لدعم مواطنيها، لن يتبقى لديها من المدخرات ما يكفي لدعم الأميركيين المسرفين. ومن المرجح أن يؤثر هذا على الشروط التي تجتذب الولايات المتحدة بموجبها التمويل الأجنبي، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى إضعاف الدولار، أو ارتفاع أسعار الفائدة أو ارتفاع معدل التضخم، أو قد تجتمع أي تركيبة من الاحتمالات الثلاثة. وفي الاستجابة لهذا فإن الرياح الاقتصادية المعاكسة التي تواجه أميركا سوف تصبح أشد قوة.
كثيراً ما يُقال إن أي أزمة لا ينبغي أن تُهدَر أبداً: فالساسة والمشرعون والقائمون على التنظيم لابد أن يحتضنوا لحظة الضائقة العميقة وأن يتحملوا العبء الثقيل المتمثل في الإصلاح البنيوي. ويبدو أن الصين الآن تفعل هذا على وجه التحديد؛ على النقيض من أميركا. إن الاعتماد المتبادل يشير إلى استنتاج لا مفر منه: وهو أن الولايات المتحدة توشك أن تسقط في منحدر زلق من مخاطر التفكير الخطي.
*عضو هيئة التدريس في جامعة ييل، والرئيس السابق لمؤسسة مورجان ستانلي في آسيا، وأحدث مؤلفاته كتاب «انعدام التوازن: الاعتماد المتبادل بين أميركا والصين».