عيسى الجعفر شخصية لا تتكرّر أبدًا أبدًا. كان يكره المدرسة، كثير الغياب، مشغولًا برعي أغنام عائلته، لكنه كان بارعًا في تأليف القصص والحكايات، خفيف الدم، مرحًا. وكانت استفادته من المدرسة تتلخص في جملة “آخر ما حرّر”. التقط الجملة من الأستاذ خلف زينو الذي قدم إلى مدرستنا منقولًا من حماة. كان الأستاذ خلف يحشو بين الكلام “آخر ما حرر كذا وكذا”.
هذه الآخر ما حرر صارت علامة فارقة لعيسى، استعارةً، بل استيلاء، دائمًا، إذْ إنّ عيسى لم يعدْ يبدأ بحكاية من حكاياته الممتعة من دون “آخر ما حرر”.
كبرنا وتفرقنا. رحل بعضنا إلى المدن مع أهله. وبقي البعض يعمل في الأرض مع أهله. لكننا لم ننقطع عن زيارة القرية وسهراتها المليئة بآخر ما حرر من قفشات وحكايات، وبقي عيسى مع من بقي يروّس حكاياته بـ”آخر ما حرر”. وظل هو هو؛ نجم السهرات.
يكون متكئًا على الوسائد، فيعتدل ويقول آخر ما حرر، فنبدأ بالضحك سلفًا، وكأن الضحك يثار من هذه الجملة. والحقيقة هي أننا نتوقع أن “آخر ما حرر” ما هي إلا إشارة البدء، وأن عيسى يكون قدْ ألف حكاية كاذبة، أو حقيقية، يصيغها مجدّدًا بحيث تصبح في منتهى الطرافة وإثارة الضحك. وما أكثرها حكايات منطقتنا بالمناسبة! ما أكثرها!
اندلعت الحرب العراقية الإيرانية، فاصطفّ أهل قريتنا ومنطقتنا مع العراق نكايةً، ليس في العلن بالطبع، وإنما في التلميحات والإيماءات والقفشات، حتى ليمكن القول إن الحرب أدت إلى تطوير لغة خفيّة زاخرة. في هذه اللغة الجديدة يكون قصد وهدف المتكلم تمامًا عكس معاني الكلمات. لا يمكن لأحد تصور مدى الإبداع في تلك اللغة إن لم يعايش مرحلة “آخر ما حرر”.
شيئًا فشيئًا امتلك عيسى حقًّا وفعلًا تلك اللغة، وصارت متعة سهرات الآخر ما حرّر. ولكن الحلو لا يكمل كما يقول المثل.
في صبح مبكر من أيام شتاء عام 1982، جاءت قوةٌ مسلحة كبيرة من المخابرات العسكرية في دير الزور والرقة وكوّشتْ على 11 رجلًا من قريتنا، وكان بينهم حتى موالون للحكم. أصعدوهم إلى صندوق بيك آب الشفر الأزرق تحت الضرب بأخامص الكلاشنات والدماء تسيل. وكان عيسى بينهم.
فيما بعد، سنعرف من دون لبسٍ أن “الشوايا” متهمون بالعمالة للعراق إلى أن يثبت العكس. وسنعلم فيما بعد، أيضًا، أن محور التحقيق الذي خضع له معتقلو قريتنا هو ماذا تعنون بـ”آخر ما حرر”، ومن هو الذي نظّمكم، وكم تقبضون.
مع الزمن، مات اثنان من المعتقلين، وخرج الآخرون معطوبين في أوقات متباعدة. آخر من خرج في ربيع 1998 بالطبع كان عيسى صاحب “آخر ما حرّر”. لم يعد عيسى يلفظ تلك الجملة على الإطلاق.
تغيرت الدنيا، واختفت اللغة التي اخترعها أهل المنطقة، وصارت السهرات مملة وثقيلة. وأمسى عيسى بعد خروجه كثير الصمت، هو المفعم بالحيوية واختراع القصص. بات كالآخرين صموتًا مشغولًا بداخله، أو بالراديو الصغير الملتصق بأذنه.
في ذلك اليوم الحار الجهنمي من سنة 2000، الذي زادته حرارةً نار تحضير القهوة، وبينما كان عيسى متمددًا عند باب الصالة الثانية في المضافة، وهي الصالة المخصصة للضيوف المهمّين، اعتدل فجأة بطريقة خاطفة ولوّح بالراديو، قال بصوت يشبه الصرخة:
ــ آخر ما حرّر…
انتبه الجميع واعتدلوا في جلساتهم، فقد جاءت فجأة، بعد انقطاع طويل، تلك الجملة من أيام الزمن الجميل “آخر ما حرر”. كرّر عيسى مقهقهًا:
ــ آخر ما حرر مات حافظ أسد…
ساد وجوم وسكون، وتجمّد الحاضرون.
حكاية من أرض الشوايا
التعليقات مغلقة