أ.د سعاد بسناسي
تعكس تجربة أديب كمال الدّين الرّوحيّة والفكريّة حالة التّقرّب من الله من خلال عدّة جوانب لعلّ أهمّ هذه العوامل: السّعي إلى إقامة علاقة شخصيّة وعاطفيّة مع الله، نظرًا إلى أنّ التّصوّف وسيلة للتّواصل الرّوحيّ. من خلال ما يتضمّنه التّأمّل والتّفكّر في الذّات والكون، ممّا يساعده على الوصول إلى فهم أعمق للوجود الإلهيّ، وحتّى يصل إلى هذه الحالة، تستخدم في قصائده الصّوفيّة رموزًا مثل النّور والضّوء، التي تمثّل الإله والحقيقة الرّوحيّة. هذه الرّموز تساعد في التّعبير عن التّجارب الرّوحيّة وتعزّز من قدرة الشّاعر على التّواصل مع الله. كما تتميّز أشعاره بالتّعبير عن الأحوال والمقامات الرّوحيّة، حيث يصف الشّاعر مشاعره وتجربته الشّخصيّة في السّعي نحو الله. هذه التّجارب تشمل الشّوق والذّوق الرّوحيّ، ممّا يعكس عمق العلاقة بين الشّاعر وربّه، من خلال ربط العلاقة بين الجمال الحسّيّ والجمال الرّوحيّ، حيث يعتبر الشّاعر أنّ التّقدير للجمال في العالم المادّيّ يمكن أن يقود إلى تقدير الجمال الإلهيّ. هذا الرّبط يساعده على فهم العلاقة بين الرّوح والمادّة، ممّا يعزّز من تجربته الصّوفيّة.
وعلى الرّغم من ذلك فإنّ هذه التّجربة تكتنه عالم الكشف الرّوحيّ الذي يتجاوز التّفسير التّقليديّ، حيث يتميّز بالجسارة في تناول مواضيع الألوهيّة والرّوحانيّة. من خلال هذا التّعبير الفنّيّ، تمكّن أديب كمال الدّين من تحطيم الحواجز الجماليّة والسّياسيّة والاجتماعيّة، ممّا يساهم في تعزيز تجربتهم الرّوحيّة، ولا شكّ في أنّ السّموّ إلى الكينونة لا تستوعبه إلاّ لغة تسعى إلى احتواء المطلقات الجماليّة، والرّوحيّة، والفكريّة والوجدانيّة، فلم يكن من الشّاعر إلاّ اللّجوء إلى مقام حرف “الألِف” الذي يشار إليه في لغة الصّوفيّة ـ “بالذّات الأحاديّة“؛ لأنّ استقامة الألِف ـ عندهم ـ علامة قيّوميّة، أمّا الحركة الأفقيّة المائلة فعلامة تكوين؛ إذ يعلّل ابن عربيّ جعل العرب الألف مبتدأ الحروف، ويجيب عن السّؤال الأربعين في الفتوحات المكيّة وهو: «كيف صار الألِف مبتدأ الحروف؟ الجواب لأنّ له الحركة المستقيمة وعن القيوميّة يقوم كلّ شيء، فإن قلتَ إنّما يقع التّكوين بالحركة الأفقيّة، فإنّه لا يقع إلاّ بمرض والمرض ميْل.[1]
وفي ضوء ما تقدّم تعتبر لغة الإشارة في شعر أديب كمال الدّين هي لغة رمزيّة وإيحائيّة تستخدم الإشارات والرّموز للتّعبير عن المعاني الرّوحيّة والصّوفيّة العميقة. هذه اللّغة تتميّز بالخصائص التّالية:
أولا: رمزيّة اللّغة
تستخدم لغة الشّعر الصّوفيّ لدى أديب كمال الدّين رموزًا وإشارات لها دلالات روحيّة وصوفيّة، مثل الحبّ الإلهيّ، الجمال الأزليّ، الوصال، الفناء في الله. هذه الرّموز تتجاوز المعنى الحرفيّ إلى دلالات رمزيّة أعمق.
ثانيا: الإيحاء والتّلميح
تعتمد لغة الإشارة في شعر أديب كمال الدّين على الإيحاء والتّلميح بدلاً من التّصريح المباشر. فالشّاعر يلمح إلى المعاني ويوحي بها من خلال الرّموز والإشارات، ممّا يضفي على النّص طابعًا إيحائيًا وغامضًا.
ثالثا: الخصوصيّة والغموض
تتميّز لغة الإشارة الصّوفيّة في شعر أديب كمال الدّين بالخصوصيّة والغموض، فهي لغة مقتصرة على طائفة المتصوّفة الذين لهم إلمام بعالم التّصوّف وتجربته الرّوحيّة. لذا فهي لغة معتمة وكتومة على من لا يفقه أسرارها.
رابعا: الانفتاح على التّأويل
تتيح لغة الإشارة في شعر أديب كمال الدّين مساحة واسعة للتّأويل والتّفسير، فالرّموز والإشارات قابلة لتعدّد التّأويلات والدّلالات بحسب تجربة القارئ ورؤيته الصّوفيّة. وهذا ما يجعل النّص الصّوفيّ عنده منفتحًا على قراءات متعدّدة، وبالمجمل، فإنّ لغة الإشارة في شعر أديب كمال الدّين تعدّ لغة رمزيّة إيحائيّة، تستخدم الحروف في شكل رموز وإشارات للتّعبير عن المعاني الصّوفيّة العميقة. وهي لغة خاصّة بعالم التّصوّف تتميّز بالغموض والانفتاح على التّأويل؛ للبحث عن الوجود المطلق”الذي يشمل “الحقّ” كما يشمل مجال تجلّي الحقّ في جميع مخلوقاته (أي العالم) مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالحروف التي هي جامعة لكلّ ذلك، ومعبّرة عنه، ودالّة عليه، ومن ثمّ فإنّ الشّاعر – أديب كمال الدّين – كما المتصوّفة، يجدون في “الحرف” وسيلة لبيان مقام (المكلِّف) أي الحقّ تعالى في مقابل (المكلَّفين). كما تجسّد الحروف لديهم إمكانيّة للتّعبير عن رؤية جديدة للخالق والخلق والعلاقات الكونيّة، تتحرّر فيها دلالة كلّ حرف من حدود المنطق اللّفظيّ؛ لتمثّل جزءا حيويًّا في المشهد الكونيّ، إضافة لكونها جزءا من المشهد الإبداعيّ:[2]
استنطاق الحرف في السّر
يعبّر الشّاعر أديب كمال الدّين عن استنطاق الحرف في السّر من خلال استخدام لغة إيحائيّة رمزيّة؛ إذ يستخدم أديب كمال الدّين لغة إيحائيّة رمزيّة في شعره، حيث يوظّف الحرف والكلمة كرموز للتّعبير عن المعاني الباطنيّة والتّجارب الرّوحيّة، والمدركات الباطنيّة، فالحروف عنده تتحوّل إلى بصمة شعريّة تعبّر عن حيوات كاملة وذوات فريدة، ووقفات روحيّة.
أوقَفَني في موقفِ الحرف
وقال: الحرفُ حرفيّ والنّقطةُ نقطتي.
فكيفَ لكَ أنْ تفهمَ سرَّ خُلودي
وأنتَ الذي يحملُ الموت
في نبضةِ القلب؟
وكيفَ لكَ أنْ تتجلّى في ملكوتي
وأنتَ الذي يبكي على جرعةِ ماءٍ
ورغيفِ خبز؟
وقال: الحرفُ حرفي
ستجدهُ في كهيعص
وألم وطه ويس وق ون.
فكيفَ لكَ أنْ تتقبّلَ سرَّ السرّ
وأنتَ الذي تتقاذفُه المنون
ليضيع في البحارِ والبلدان
وفي سناّرةِ السّنين؟
هل حمّلتُكَ ما لا تطيق
وأنا الرّحيم يا عبدي؟
النّونُ كانتْ نقطتي
فلا تكنْ كصاحبِ النّون[3]
ومن هذا المنظور يرتبط استنطاق الحرف في شعر أديب كمال الدّين بتجربته الصّوفيّة العميقة، حيث أخلص للحرف حتّى أصبح بصمته الشّعريّة، فالشّاعر يسعى من خلال الحرف إلى التّعبير عن عوالمه الدّاخليّة والتّواصل مع الذّات الإلهيّة، موظّفا في ذلك الابتكار اللّغويّ والتّجديد الشّكليّ حيث بدأ بكتابة قصيدة التّفعيلة ثمّ تحوّل إلى قصيدة النّثر. هذا التّجديد يعكس سعيه إلى استنطاق الحرف واستكشاف آفاق جديدة للتّعبير الشّعريّ.
يحمل النّص دلالات عميقة تتعلّق بالوجود والمعنى، ويعكس تجربة الشّاعر في استنطاق الحرف والنّقطة كرموز تحمل معاني روحيّة وفلسفيّة. والحرف هنا يمثّل العنصر الأساسيّ في اللّغة والتّعبير، وهو يحمل دلالات متعدّدة في الفكر الصّوفيّ. الشّاعر يشير إلى أنّ الحرف ليس مجرّد وسيلة للتّواصل، بل هو كائن حي يحمل سرًا ومعنى عميقًا. الحرف يصبح وسيلة لاستكشاف الذّات والوجود، ممّا يعكس فكرة أنّ كلّ حرف يحمل في طيّاته تجربة روحيّة.
أمّا توظيف النّقطة في هذا السّياق فإنّها تعتبر مركزًا للوجود، حيث تُعتبر نقطة البداية والنّهاية. في التّصوّف، تُفهم النّقطة على أنّها تجسيد للوجود المطلق، وهي تعبّر عن وحدة الوجود. الشّاعر يربط بين الحرف والنّقطة ليظهر كيف أنّ كليهما يشكّلان جزءًا من تجربة روحيّة متكاملة.
وفي كلّ الدّلالات المعبّر عن سرّ استنطاق الحرف، كما في صورة “أوقَفَني في موقفِ الحرف” تعكس تجربة الشّاعر في التّوقّف والتّأمّل. هذا الموقف يشير إلى حالة من الوعي الذّاتيّ، حيث يتفاعل الشّاعر مع الحرف والنّقطة في حوار داخليّ. هذا الحوار يعكس الصّراع النّفسيّ والبحث عن الهويّة والمعنى في عالم مليء بالتّعقيدات. والشّاعر إذ يستخدم الحرف والنّقطة كرموز للوجود والمعنى، فإن ذلك يعكس فلسفة الصّوفيّة التي ترى أنّ كلّ شيء في الكون مرتبط ببعضه البعض. الحرف هو التّعبير عن الفكرة، بينما النّقطة تمثّل الجوهر الذي يتجاوز الكلمات.
تتجلّى التّجربة الصّوفيّة في هذا المقطع من خلال البحث عن الحقيقة والوجود، حيث يسعى الشّاعر إلى فهم العلاقة بين الحرف والنّقطة، ممّا يعكس سعيه إلى الاتّحاد مع المطلق.
وفي ضوء ذلك فإنّ المقطع الشّعريّ يعكس عمق التّجربة الصّوفيّة لأديب كمال الدّين، حيث يستنطق الحرف والنّقطة ليعبّر عن رحلة البحث عن المعنى والوجود. الحرف يصبح رمزًا للهويّة والتّعبير، بينما النّقطة تمثّل مركز الوجود، ممّا يجعل هذا المقطع غنيًا بالدّلالات الرّوحيّة والفلسفيّة.
والشّاعر حين يستوقفه الحرف يتساءل معه [فكيفَ لكَ أنْ تفهمَ سرَّ خُلودي] وكأنّ الشّاعر في هذا المقطع يريد أن يمتثل نهج ما قاله R.D.Laing في كتابه سياسة الخبرة، The Politics of Experience: “لقد ولجنا في عالم ينتظرنا فيه الاغتراب”[4] وهو ما يشير ضمنيّا إلى أنّ أديب كمال الدّين لم يختر الكتابة عن المنفى بصريمة الإرادة، بقدر ما كانت حاجةً فرضتها حالة التّشيّؤ، ولزوما موجبا اقتضته ضرورة تمزّق الواقع، فضلا عن سلب الإرادة، وضياع البوصلة في الاتّجاه الآمن، على نحو ما نستشفّه في مضامين شعره المصبوغ بدلالات التّشريد، والتّهجير، وكلّ ما يمتّ بصلة إلى صفات السّلب والنّفي، وكأنّه في هذه الحالة منقاد إلى النّبذ، والإبعاد؛ وكأنّه بذلك يجسّد صورة “شاعر النّفي” بعد أن ذاق مرارة “اللاّمأوى” الذي أصبح مصير العالم ـ حسب تعبير هيدجرـ Heidegger حين أصبح الإنسان بلا جذور”والمتجوّل هو التّجسيد الخالص للغريب الذي لم يفقد مأواه فحسب، بل فقد أيضا وضعه في الزّمان على السّواء”[5].
[1]– ينظر، حياة الخياريّ: الحَرْف شكل من أشكال التّعبير الرّمزيّ ـ مقاربة إنشائيّة (مرجع سابق)، وينظر أيضا، ابن عربيّ: الفتوحات المكّيّة، دار صادر، ط1 بيروت د. ت ، ج 2، ص 122. وينظر أيضا، عبد القادر فيدوح: أيقونة الحرف وتأويل العبارة الصّوفيّة، ص 155.
[2] سحر سامي: شعريّة النّص الصّوفيّ في الفتوحات المكّيّة، لمحيي الدّين بن عربيّ، ص79.
[3] أديب كمال الدّين: مواقف الألف، ص 30.
[4] – ينظر، مجاهد عبد المنعم مجاهد: الإنسان والاغتراب، سعد الدّين للطّباعة والنّشر، بيروت، 1985، ص 36
[5] – ينظر، مجاهد عبد المنعم مجاهد، الإنسان والاغتراب، سعد الدين للطباعة والنشر، بيروت، 1985، ص 28