التسامح في الأفلام السينمائية المختلفة
كاظم مرشد السلوم
السينما اشبه بصندوق حكايات كبير يتحدث عن الخير والشر، عن الحب والحرب، عن التسامح وعن الكراهية، لذلك جاءت الافلام السينمائية حاملة لهذا اختلاف وهذا التضاد منذ اكتشافها في أواخر القرن التاسع عشر ولحد الان.
التسامح هو الفاصل بين العنف واللاعنف، بين السلم وبين الحرب، بين الحب والكراهية، بين التعايش السلمي لشتى الفئات والطوائف والاديان، وبين الاقتتال والحروب الاهلية، لو اتصف الجميع بالتسامح لما كانت هناك كراهية بدءا من العائلة ومرروا بالوطن الواحد وانتهاء بالعلاقات الدولية بين دول العالم المختلفة.
المتابع لموضوعة التسامح في السينما يجد فارقا كبيرا في عدد الافلام التي تتحدث عن التسامح او اتخذت من التسامح ثيمة اساسية لها ووضعته كغاية وهدف ، مقارنة بعديد الافلام التي تتحدث عن الحرب والعنف والكراهية ، لذلك لا يمكن المقارنة بينهما من حيث العدد ومن حيث ضخامة الانتاج ، السينما العالمية في رحلتها الطويلة تناولت موضوع التسامح بالتأكيد لكن هذا التناول غالبا ما تم من خلال جملة او مشهد او ربما لقطة ، لكنها تروج للعنف والتطرف وتسخر لذلك امكانات كبيرة وهذا ناتج عن اجندات سياسية تنفذها شركات انتاج عالمية عملاقة ، لكن ذلك لم يمنع بقية السينمائيين من انتاج أفلام تتحدث عن التسامح والسلام والحب والالفة ، السينما العربية انتجت العديد من الافلام التي تتحدث عن التسامح وان كان بشكل غير مباشر ، ، حيث اهتمت منذ بداياتها بموضوع التسامح الديني ، الفنان الراحل يوسف وهبي من أوائل الذين قدموا اعمالا في هذا المجال ، من خلال الافلام التي يكون ابطالها من ديانات مختلفة ، وقدم المخرج فؤاد الجزايرلي عملا مهما بعنوان « حسن ومرقص وكوهين « الذي قدم مرة اخرى بعنوان « حسن ومرقص « لرامي امام ، وبطولة الراحل عمر الشريف وعادل امام ، لكن اسم كوهين رفع هذه المرة ، وقدمت كذلك افلاما مهمة اخرى مثل الناصر صلاح الدين ليوسف شاهين ، وبحب السينما للمخرج اسامة فوزي ، والارهابي لنادر جلال ، وغيرها ، هذه الافلام اثارت جدلا واسعا بين الجمهور ، كونها تتعرض لثوابت وقيم ، مثل التزاوج بين ابناء الديانات المختلفة وادانة التطرف ، وهدفها اشاعة التسامح ، الذي قد لا يؤمن البعض به.
التسامح هو العفو عند المقدرة، ان تسامح من اساء اليك وانت بكامل قدرتك حين يكون بإمكانك ان تنال منه جزاء ما فعل بك، التسامح هو ان تتقبل الاخر مهما كان الاختلاف بينكما، ديني، عرقي، أو مذهبي، بعض الافلام تظهر العطف وليس التسامح وشتان ما بين الاثنين ، في فيلم « العازف « للمخرج رومان بولانسكي ، الضابط الألماني هنا يعطف على العازف اليهودي ولا يتسامح معه لان العطف شيء والتسامح شيء اخر .
فيلم لبناني مهم للمخرجة نادين لبكي هو فيلم « هلا لوين « يتحدث عن الصراع الطائفي في لبنان التي شهدت حربين اهليتين طويلتين ،وما زالت الى الان تعاني من شحن طائفي يمكن ان يفجر حرب اهلية اخرى في اي لحظة ، الفيلم يتحدث عن قرية لبنانية نائية يعيش اهلها بسلام ودعة رغم اختلافهم الديني فهم مسلمون ومسيحيون ، دروز ، وغيرهم ، ، قرية لم يصلها التلفزيون ،لذلك لا تصلها اخبار ما يجري في المدن ، التلفزيون الذي حين دخل القرية ( وهنا دلالة على الاعلام ونشرات الاخبار المنحازة الى هذه الجهة او تلك ) ، يثير في نفوس اهل القرية الضغينة والحقد ليبدأ صراع كبير، لا وجود للتسامح فيه الا ما ندر ، لبكي تنحاز الى المرأة في فيلمها هذا ، فالنساء يريمن السلاح في بئر القرية ، بعد سرقته من ازواجهن ، ويتفقن على ان يسقين الرجال مخدرا قويا في التوقيت نفسه ويتفقن ان يغيرن الدلالات والرموز الدينية في بيوتهن ، وحين يصحى الرجال تدعي المسيحية منهن انها مسلمة والمسلمة انها مسيحية ، فيحار الرجال فيما حصل .
المشهد الاخير، هو مشهد تشييع احد شباب القرية الذي يقتل في بيروت، يشيعه اهل القرية، مسلمون ومسيحيون، عندما يصلون المقبرة، يحارون اين يدفنونه فهم لا يعرفون ان كان مسلما او مسيحيا ، ويصرخ الجميع هلا لوين.
في وضع مثل وضع العراق والقتال الدائر في بعض مدنه خصوصا الشمالية والغربية ، نحن اشد ما نكون بحاجة الى التسامح والى افلام تدعو اليه ، لكن هذا لم يحصل بل ان ما ينتج هي افلام تتحدث عن فرط قسوة النظام السابق ، قسوة مكون على مكون اخر، قسوة الحروب التي جرت، وبرغم اهمية كشف حقيقية ما جرى ، لكن الفيلم يكون احيانا سلاحا ذو حدين ،ممكن ان يؤلب المشاهد ويحرض للانتقام ، يفترض ان يكون هناك اشتغال على حالات تظهر رجال امن او اشخاص من ديانة او مكون مختلف يرفض ما يجري من اضطهاد وقتل للأخر، حتى لا يكون هناك تعميم في ان الجميع يتحملون مسؤولية ما جرى.
فيلمان مهمان هما « غاندي « للمخرج ريتشاد انتبره ، وبطولة الممثل بين كنغسلي ، وفيلم « مانديلا « للمخرج « كلينت ايتسوود ، وبطولة الممثل مورجان فريمان ، ومات ديمون ، يتحدثان عن شخصيتين حقيقيتين قدمتا للعالم درسا كبيرا في التسامح وكيفية التعامل مع الاخر وان كان مضطهدا وقاسيا ، وما زال العالم يتحدث عنهما كأنموذج يقتدى به ، السينما في هذين الفلمين ، لا تقترح حلا بل تطرح قصة رجل عانى اضطهادا وسجنا لمدة 27 عاما ، قصة اضطهاد وقمع وتفريق عنصري ، ربما لا يمكن ان نتسامح معه لكن مقابلة العنف بالعنف قد تفتح مجرى دم لا يمكن إيقافه وبحكمة كبيرة يقوم مانديلا بإبقاء الحماية الخاصة بالرئيس الأبيض معه ، يتعامل مع رمز عنصري اخر هو فريق الركبي الذي كان يطرد ويحرم من المشاركة في العديد من البطولات الدولية كونه فريق عنصري ويمثل نظام روديسيا العنصري ، ويوطد علاقته بكابتن الفريق « مات ديمون «ويعمل على توفير كل ما يحتاجه فريقه ، ويجعل كل السود يشجعون الفريق ويعدونه فريقهم الوطني بعد ان كان رمزا للتفرقة العنصرية ، ويقود البلاد الى سلام شامل اساسه التسامح .
غاندي وحكايته في محاربة المحتل بالصيام والسلام وثورة الملح ، الفيلم يطرح مسألتين مهمتين هو تسامح غاندي من خلال مقابلة العنف بالسلم حتى يرضخ المحتل ، لكن عندما توشك البلاد على الاستقلال نجد ان ثمة شرخ كبير في المجتمع موجود أصلا ، فجأة يتسع هذا الشرخ ،عندما تنفصل البلاد وتنشطر الى جزئين هما الهند وباكستان ، مشهد مؤثر هو مشهد الاقتتال في المنطقة الفاصلة حيث يسرع الجميع نحو المنطقة التي يفترض ن تكون وطنه المستقبلي ، والسؤال كيف عاش الشعب الهندي طوال السنين الماضية دون ان يفكر احد بالانفصال ،الشعب الذي يقال ان عدد الديانات فيه تصل الى المئات من الديانات لمختلفة ، بالتأكيد ان التسامح كان هو السبب ، لكن من اختار الانفصال وجعل الهند دولتين ؟، هل هم المسلمون ام الهندوس ام السيخ ، بالتأكيد ان الساسة هم من قرر ذلك ، لذا رسالة الفيلم واضحة جدا هنا .
فيلم هوليوودي أخر هو « شلتر « واحد من اهم الأفلام التي تتحدث عن الفترة الحالية ، فترة تنامي العنف والارهاب ، وثيمة الفيلم هي التسامح وتقبل الاخر .
كذلك الفيلم يطرح تساؤلا هو هل يمكن للجوع المشترك والتشرد ان يوحد الناس ويجعلهم متسامحين بينما الغنى هو من يعمل على الفرقة وترفع الانسان على الانسان فيشعر ان فلانا الاسود او الابيض او المسيحي او المسلم هو اقل درجة منه.
طاهر عبدي، رجل اسود من كيينا يعيش مشردا في نيويورك المدينة التي لا ترحم كما نعرف فيما بعد ، يخرج من السجن ليعود الى المأوى حيث لا مأوى فهو يعيش في الشارع ، يلتقى امرأة متشردة ومدمنة تحاول الانتحار فينقذها .
يعيشان معا يقتسمان ما يحصلان عليه هو من عزفه على دلوين فارغين ، وهي مما تحصل عليه هي من الاستجداء ، في احد الايام لا يحصلان على شيء ، فيسرقان الطعام ، يطاردان من قبل بعض الباعة ، فيدخلان مصادفة في بيت لأغنياء سافروا لفترة ، تحكي له حكايتها ، كانت متزوجة من ضابط في الجيش ولها ابن منه ، ذهب للقتال في العراق ، ففجر احدهم نفسه على نقطة التفتيش التي يقف فيها فمات ، لم تتحمل الصدمة فالتجأت الى المخدرات وتركت ولدها عند ابيها ، تنهار ، فيقول لها ، انا أسوأ حالا منك ، فانا انتميت الى جماعة بوكا حرام ، قتلت العشرات ، نساء واطفال وشيوخ وجنود ، ربما بنفس الطريقة التي قتل فيها زوجك ، حين صحوت على نفسي لم اتحمل البقاء في كينيا لذلك اخترت ان اعيش متشردا على ان اعمل مع الجماعة المتشددة .
تنتهي فترة وجودهما في البيت ، فيخرجان مرة اخرى الى الشارع ، تضرب عاصفة ثلجية نيويورك ، يمرض هو ويصاب بذات الرئة ، تدخله المستشفى ، وتذهب تبحث عن مأوى يقيها هول العاصفة ، عند بوابة احدى ناطحات السحاب ، وهنا الدلالة واضحة ، كل هذه الناطحات العملاقة لا يمكن ان تأوي متشردي نيويورك ، يناديها الحارس ، تعالي انت تشبهين ابنتي ، ادخلي من الباب الخلفي فهنا توجد عشرات الكاميرات وقد اخسر عملي بسبب ايوائك ، تدخل من الباب الخلفي في غرفة المراجل البخارية ، يفرش لها فراشا ، تبدو على وجهها علامات الرضا والامتنان ، لكن في التفاتة منها تتفاجأ به يقف فوقها وقد فتح سحاب بنطاله ، لماذا تسأله ، يجيب ( لا شيء مجاني هنا في نيويورك ، يا ابنتي ) .
تكلفة علاج صديقها 400 $ ، تطلبها من الحارس مقابل الموضوع نفسه ، يخرجون صديقها من المستشفى ، تتصل بأبيها طالبة منه العودة الى البيت ، برفقة صديقها فيوافق ، تطلب منه اجرة النقل ، يرفض ظنا انها تريده لشراء المخدرات ، تأتي به الى البناية نفسها ، وتطلب من الحارس اجرة نقلهما ، يقبل ويمارس معها الجنس ينتبه صديقها الى ذلك فيقتل الحارس ويهربان الى الشارع قريبا من حافة البحر ، ويبيتان هناك ، في الصباح تجده ميتا ،من شدة البرد والمرض ، تربطه الى عدة الواح وتغطيه بقطع من البلاستك ، وتدفعه باتجاه البحر وهي تبكي ، يتلقفه البحر .
البحر هو البحر نفسه الذي ابتلع الهاربين من قسوة الحياة وغياب التسامح، عراقيين وسوريين و(حراگة) الشمال الافريقي العربي وغيرهم ، نحن احوج ما نكون لأفلام عربية تتخذ من التسامح موضوعا لها ، في ظل ما يحدث في بلداننا لا ننتظر ان يعمل لنا الاخرون افلاما سينمائية تعني بواقعنا وتحثنا على التسامح .