يوسف عبود جويعد
في عام 2014 تغير وجه الحياة في البلد، وانقلبت موازين الامور، عندما فوجئ الجميع بغزو همجي أرعن، للدواعش الاوباش الهمج، بلحاهم وثيابهم القصيرة ورائحتهم النتنة وأفكارهم التي استمدت من عصر الجاهلية، يحملون السيوف ويقطعون الرؤوس، ويستحيون النساء، ويقتلون الرجال والشيوخ والاطفال، ويؤسسون دولتهم الوهمية الواهية في مدن عدة من أرضنا، وقد كان النصيب الاوفر من هذه المأساة في محافظة نينوى، وشهدت مدينة سنجار مجزرة كبيرة ومروعة وخالية من الإنسانية، والعالم كله يشاهد وهو ساكن دون حراك، كيف تسبى النساء وتغتصب. وتكون ضمن قائمة جهاد النكاح، بكل وحشية وظهرت حكايات تقشعر لها الابدان، ويلتهب فيها الفؤاد لوعة وحزناً، حيث تصل في غرائبيتها وعجائبيتها وفنتازيتها الواقعية اكبر من اهم الحكايات حتى في بطون التاريخ مثل حكايات الف ليلة وليلة وغيرها، وهي تعكس وجه الصورة القذرة لهؤلاء الاوباش، وكان من الطبيعي وبعد أن طفت تلك المأساة على سطح ارض الواقع وصارت تتناقلها الالسن، أن ينبري المثقف والاديب ليكون له دور فاعل في فضح هذه الممارسات اللا إنسانية، فظهرت روايات كبيرة وعميقة تنقل لنا تلك الواقعة المخزية، منها رواية (عذراء سنجار) للروائي وارد بدر السالم، ورواية (شمدين) للروائي راسم قاسم ورواية (سبايا دولة الخلافة) للروائي عبد الرضا صالح، وغيرها الكثير، ثم يلتحق بهذا الركب المبارك الروائي عبد لكريم الساعدي في روايته( ليلة هروب الفراشات) التي نحن بصدد تحليلها، وهي باكورة اعماله الروائية، لينضم اليهم، ويقدم لنا ملحمة سردية كبيرة، تضيء جانب مهم من حياة الطائفة الايزيدية وما لحقهم من تدمير شامل في اموالهم وارواحهم وارضهم وعرضهم.
تمت عملية نقل الاحداث من خلال المسار السردي بطريقة حرة متنوعة دون الحاجة الى التمهيد، فبينما إننا نتابع حركة سير الاحداث من خلال السارد العليم،أو السارد الخارجي، فسرعان ما ينتقل الروائي ليوكل مهمة إدارة دفة الاحداث لبطلة النص، واحيانا لمقتضيات الضرورة ينتقل بنا الى عملية السرد بصيغة الجماعة، والتي تنوب عنهم في ذلك بطلة النص كاترينا، ثم تلتحق جيهان لتقود هذا الركب، وهذا التنوع في عملية نقل الاحداث يتناوب في متن النص دون الحاجة الى تمهيد، فقد شهد المقطع القصير من النص ثلاث انتقالات للسارد وكما اسلفت سابقاً بطريقة حرة وسريعة وحسب مقتضيات السياق الفني لها، كما نجد في هذا النص اختفاء عنصر المفاجأة الذي يمهد له الروائي في اغلب النصوص السردية، وذلك بسبب كبر وتشعب وسعة وحدة واحتدام الاحداث وهو يزخر بمفاجآت كبيرة وكثيرة الامر الذي حدى بالروائي أن لا يشغل باله في هذا التمهيد لهذه المفاجآت التي تكون الاحداث اهم واكبر منها.
كتبت بلغة سردية نابعة من الروح المتألمة والمتأثرة والمؤثرة كونها تنبثق من صميم الوقائع الفجائعية والكارثية التي سوف نتابعها من خلال سير احداث هذا النص.
وسوف نكون مع لحظة دخول الدواعش مدينة سنجار، وغزوها، وتطويقها من كل الجانب، واسر ابناءها، ليفرقوا النساء عن الرجال ليقتلوهم بصورة وحشية، ثم سبي النساء ونقلهم الى المعسكرات التي اعدوها لهم.
من هنا تبدأ رحلتنا الكبيرة القاسية الوحشية المؤلمة مع بطلة هذا النص، وما لحق بها من أضرار وصلت حد تدمير كيانها الإنساني هي ومن معها من الفتيات الباكرات والنسوة المتزوجات، وكيف تم التعامل معهن بكل وحشية ليكونن تحت اوامر هؤلاء وتحقيق رغباتهن السريرية الجنسية، ويكون هذا الاغتصاب جماعياً احياناُ وانفرادياً احياناً وفق جدول يعد لذلك.
( نترجل، تحيط بنا مجموعة من الرجال، يتقدمهم رجل جاحظ العينين، يلتفت إلى السائق، يتسلّم ملفّ أوراق، يتأمله، يبتسم، نتشكّل صفاً طويلاً حسب تسلسل أرقامنا، أحدّق في يافطة مؤطرة بخط أسود، معلّقة فوق الباب الرئيس للبناية، أتمعن في كلماتها «مركز استلام السبايا» تدافع من خلف يحركني إلى الأمام، تتسابق الأقدام نحو السلّم، نُحشر في مكان ضيّق، ننزل الى طابق أرضي، تتصدره صالة كبيرة، إلى جانبها ممرّ ضيّق،) ص 41.
وهكذا نكون قد وضعنا خطوتنا الاولى، لرحلة في غابة موحشة كئيبة حزينة، تحيطها الظلمات من كل جانب، كأن اشجارها أشباح مخيفة تصدر أصواتاً تثير الهلع والخوف، نعم هكذا يتراءى للمتلقي منظر السبايا من الطائفة الايزيدية اللواتي انتزعت منهن حريتهن ونعومتهن ووصل الامر حد انتزاع كرامتهن واغتصابهن بالقوة وتحت تهديد السلاح، ليتحولن الى نسوة عليهن إطاعة اوامر هؤلاء واشباع رغباتهم الجنسية المتوحشة، فتجد كاترين انها تنسحب نحو الهوة وتفقد ارادتها ولا تملك القرار وعليها اطاعة الاوامر شاءت ام ابت.
وتحاول الهرب هي وثلاثة من السبايا، في رحلة محفوفة بالمخاطر، وصعبة فتموت احداهن، ويلقى القبض على البقية، ويتعرضن الى تعذيب رهيب مدمر.
( نقلنا إلى غرفة مهجورة تقع في طرف البستان، لا فراش فيها ولا غطاء، قضينا فيها سبع ليال بائسات، متوسّدات التراب، متألمات حدّ الفجيعة غير قادرات على تحريك السكون، نداري ألمنا الجسدي وعذابات النفس بالتأوه والدعاء، كلّ شيء فيها معتم، حتى النافذة الصغيرة القائمة فوق الباب الحديدي موصدة، غير قادرة على منحنا خيطاً من نور، يتراءى لي أنَّ الجدران بدأت تزحف نحونا، المكان يضيق، ويضيق، أضلاعي تتكسر، أنفاسي تكاد تشق ثوبي المحنى بدمي، السقف يهبط فوق رؤوسنا، يرتطم بخوفنا، بدا كل شيء في الغرفة يأخذ أمواج بحر هائج،) ص 90.
وقد حقق الروائي الغاية الأساسية في إعداد هذا النص، فجعل الروائي- النص- المتلقي، كتلة متوحدة منسجمة، وكذلك جعل الاحداث جسد واحد متصلة الاطراف، حيث بقيت كاترين بطلة هذا النص هي التي ترنو عيوننا عليها من أجل متابعة الاحداث المحتدمة الشائكة المتصاعدة، حيث نكون معها وهي تنقل لنا واحدة من الاحداث المتعددة التي حفلت بها هذه الرواية:
( خلال شهرين لا أكثر رأيت ما يهزّ عرش السماء… التقيت بأمهات حوامل، وأخريات برفقة اطفالهن، وفتيات صغيرات بعضهنّ لا تتجاوز أعمارهن تسع سنوات… ما زلت أذكر مأساة تلك الطفلة التي حاولت الفرار، طفلة لم تتجاوز الحادية عشرة سنة، لن أنساها ما حييت، ربطوها بسياج الحديقة ليومين، ثم اعتدى عليها اثنان من المسلحين طوال نهار كامل، تحصّنت بصراخ مكتوم وماتت تحت قبة سماء شاخصة شمسها فوق رؤوس الأشهاد. أمّا أنا – ابنة قريتك كوجو الجميلة- وجدت نفسي مع مئات النساء معروضة للبيع في مزاد علني، كنت من نصيب وحش كاسر، حدثني في الليلة الأولى عن الله والجنة والنار، وفي الليلة الثانية جردني من ملابسي عنوة، وجرني على الأرض، تعامل معي بشكل رخيص)ص 114
وتدور دورة الاحداث بهذا النسق الفني الساخن، بعدها تنتقل كاترين ومن خلال صديقة لها قريبة من زوجة الأمير الى معسكر الأسر، ويختلف التعامل بعض الشيء، لكن الخطر ظل محدقاً بها، وبعد تفاصيل كبيرة داخل معسكر الأسر، تتهيأ مرة اخرى للهرب، وقد كانت محفوفة بالمخاطر، الا أنها تستطيع الوصول وتلوح لها في الافق شمس الحرية، الا أنها:
( أرمي عصاي فرحةٌ، وقبل أن التقطها يلتهم جسدي لغم أرضي عند حافة التلّ، أتطاير في الفضاء، اتناثر كحبات المطر أمام رفيقتي، أتشكل زهرة بيضاء في حقل كوجو، لأرصد بدمي آخر ابواب الخراب، واوقد قنديل أمّي.)ص 286
وهكذا تكون كاترين رمزاً كبيراً لظلم الإنسان لأخيه الإنسان، وترحل فراشة بيضاء الى العالم الآخر، ولكن تبقى روحها حاضرة تطوف على أبناء كوجو كفراشة من تلك الفراشات اللواتي حاولن التخلص من براثن الوحوش الكاسرة.
وبالرغم من أن رواية ( ليلة هروب الفراشات) للروائي عبد الكريم الساعدي، هي باكورة اعماله الروائية، الا أنها تحمل الكثير من النضج الفني، وتميّزت أيضاً بأنها تضمنت لغة سردية عالية، فيها البلاغة والوعي والنثر، وهي منسجمة مع متن النص بشكل يشير الى أن الروائي عبد الكريم الساعدي، قد التحق بركب الرواة الذين عملوا في طور التجريب والحداثة.