محمد جبير
انتابتني مخاوف كثيرة قبل أن أبدأ في قراءة نص «طائر القشلة» للروائي شاكر نوري، منبع هذه المخاوف يكمن في اختياره لموضوع آني وحسّاس جدا على مستوى الحدث، كما أنه ينسجم مع خطابه السردي العام في روايات سابقة، فضلا عن عدم توفر أو كفاية المعلومات والوثائق لبناء حكاية سردية متكاملة، وكذلك بعده المكاني عن الواقعة السردية، هذا من جانب، ومن جانب آخر رحت أفكر في كيفية تناول هذه الواقعة، من حيث إنها جريمة العصر، هل ستكون الوثائقية مرتكزا بنائيا لهذا النص؟ ومن أين يحصل على هذه الوثائق؟ لاسيما أن هذه الواقعة هي واقعة فردية.
هل سيكون الخطاب السردي خطابا مباشرا تحريضيا على المحتل وما أنتجه هذا الاحتلال من مصائب وويلات للشعب العراقي، وما عاثه من خراب وفساد على الأرض حتى أصبح القتل حالة يومية اعتيادية مثل التبضع اليومي؟لكن لماذا نستبق القراءة بالمخاوف؟ ولماذا لا نباشر فعل القراءة للتحفيف من حدّتها؟ كانت تلك الأسئلة بداية الخطوة الأولى، والخطوة الأولى تبدأ من النصوص المحيطة، لعل تلك النصوص ترسم للمتلقي خريطة القراءة وتجنبه التأويلات المسبقة التي قد تربك فعل القراءة.
أترك معرفتي بالكاتب جانبا، تلك المعرفة التي تمتد لأكثر من أربعين عاما، وأترك معرفتي في طبيعة الخطاب السردي الذي يتبناه الكاتب من خلال رواياته العشرة التي قدّمها من العام 2000 إلى يومنا هذا، وأمسك بنصّه الأخير «طائر القشلة –دار المؤلف– بيروت 2019».
لا تخفّف النصوص المحيطة من مخاوف المتلقي، وإنما تزيدها، وذلك في تأكيد وتأصيل الخطاب الرافض للاحتلال هذا من جانب، كما أنه يدين القبح الذي يستهدف الجمال وذلك من خلال استثمار واقعة خطف واغتيال «كرار نوشي» الذي كان يتمنّى أن يراه ذات ليلة واقفا على خشبة المسرح يؤدّي دورا مسرحيا.
المدونة السردية:
ليست واقعة الاغتيال هي كل الحقيقة السردية في نص «طائر القشلة» على ما تحمله هذه العتبة من إشارية خاصة في الترميز للواقع اليومي الخاص بالفعل الإبداعي والثقافي الذي يقوم به شباب المتنبي في بغداد مقابل مجاميع أخرى تسعى للترويج للطروحات التي تلبس في ظاهرها لبوسا دينيا فيما باطنها ترويج وتجميل وكسب تأييد الشباب لمظاهر الخراب والتخريب الحاصل في البلاد.
ليس الواقع على أيّة حال يمكن أن يكون نصّا سرديا، ولا يمكن لكل واقعة أو حدث أن يكون مادة تحفّز لخلق نصّ سردي، إذ يخضع الإنتاج السردي إلى عقلية الإنسان المنتج للنصّ ومهاراته الخاصة في تطوير الواقعة لبناء حكاية سردية ذات أبعاد جمالية وخطاب إنساني، وهذا ما أقدم عليه الروائي شاكر نوري في إنتاج هذا النصّ، بمعنى آخر إنه ابتكر الوسيلة التي تعينه على تقديم ما يريد أن يقدّمه من شكل لهذه الواقعة بإطار روائي يبتعد فيه عن المباشرة في الخطاب ويهرب من التوثيق للحدث إلى إعادة خلق الحدث بشكل جمالي وإنساني، يمسك بالمتلقي للتماهي مع النصّ.
ما الذي ابتكره الكاتب في هذا النصّ، منذ الصفحات الأولى غيّب الكاتب الآنية من مجرى الأحداث الروائية، بمعنى أن عنصر الخيال السردي هو الذي سيقوم بعملية الفعل والتشكيل البنائي للأحداث من حيث الترتيب الزمن من ناحيتَي التقديم والتأخير، ما نفع ذلك؟ لأن الحدث أو الواقعة أكبر من التفاصيل على الرغم من شحّة تلك التفاصيل بالنسبة للشخصية أو الواقعة، فإن هذا الشكل يساعد الكاتب في المناورة على رسم وابتكار أحداث وبناء حكايات لردم الهوة الفاصلة في الواقعة الأساسية وليست الواقعة السردية، إذ تغيب حرية المناورة في الواقعة «الحدث»، فيما تنهض الحرية في المناورة السردية على الفضاء السردي «الزمان والمكان» وبنية إعادة إنتاج الوقائع وفق بنية الخطاب السردي الذي ينسجم مع المكونات الفكرية للكاتب.
دفنت الواقعة مع دفن الشهيد «كرار» وعاد الجميع يمارس حياته وأخذوا بنسيان التفاصيل تدريجيا، لأن وقائع الغدر باتت مألوفة في المشهد العراقي اليومي، والسرد يعيد خلق وتخليد الواقعة من خلال إنتاجها في مدونة سردية، وهذا ما فعله شاكر نوري، إذ ابتعد عن الواقعة بمسافة أربعين عاما باتجاه المستقبل بعد أن افترض أن الواقعة حدثت في العشرين من العمر ليكون عمر السارد في الستين.
الفاصلة الزمنية بين وثائقية الواقعة ونصّ المدوّنة السردية هي المساحة السردية التي يتحرك فيها الكاتب لبناء التفاصيل التي تشغل حيّزا أساسيا في بناء الحكاية وخطابها الخاصّ، وزمن المدوّنة السردية لايتعدى زمن العرض المسرحي الذي سبق أن قدّمه الفنان المغدور قبل أربعين سنة والذي يعيد إخراجه فنان شاب برؤية معاصرة.
هذه المدوّنة السردية كتبت من خلال ذاكرة صديقته وزميلة رحلة الفن الشبابية «حنان»، إذ تعلن جملة العتبة الافتتاحية زمن المدوّنة السردية «مرت أربعون سنة مثل ومضة خاطفة في ذهني».» الرواية –ص9»، هذه الومضة الخاطفة هي لحظة التدوين السردي التي بنيت على لحظة استباقية متخلية من أجل استرجاع تفاصل مغيبة لواقعة حقيقية، وكان المغيّب من التفاصيل هو التشكيل الجمالي الذي ردم الفراغات في المدونة الواقعية، بغية إنتاج نصّ سردي ينتصر للجمال ويدين القبح والظلامية بصورة فنية جمالية عالية وعذبة في تقديم الأحاسيس الإنسانية التي تتجسد في المدوّنة السردية من خلال العرض المسرحي على خشبة المسرح ومن خلال الاسترجاع الذي تقوم به الساردة للحظات أو زمن تقديمها للعرض المسرحي الأصل مع غدير «المغدور» والذي جسدا فيه الحب والجمال كما يعيشانه في حياتهما اليومية.