أحمد دوحي
لطالما استعذب القارىء النص الذي يتفاعل مع متطلبات اعماقه الباحثة عمّا يمطرها بشذا يفعم الروح ويغمر الارجاء بالعذوبة والبهاء، حتى إن جاء النص لا يتعامل مع الربيع بل مع الخريف، أو غابت الرياض والبساتين وكان بديلهما الحزن والشجن .. ولشد ما يعجب المتلقي ذلك البوح القادم من مواويل الصدق، وترانيم الاصابع العازفة بإتقان عند مرفأ الحنين نشيد انتظار الوجوه التي غابت وهامت الروح بحثاً عنها … وهو النص المؤثر ذلك الذي يجيء بأجنحة الشعرية ويحط على هامة الشغف والوله فيطلق تغريدته، ويبعث رسالة الكلمة المحملة بثمار الإدهاش! … فمن يجيد كل هذا التوصيف غير المرأة المعجونة بعبير الحنين وحناء الرقة، حتى لتغدو مفردة الشعرية في النص الادبي بنسبتها الكبرى من ملكية المرأة الاديبة، شاعرة اوساردة؟
تتقدم هذه الكلمات وهذا البوح القرائي بعد الانتهاء من مطالعة المجموعة القصصية (وجوه ملونة) للقاصة رجاء الربيعي التي جاءت بمائة صفحة من الحجم المتوسط واثنين وثلاثين قصة يمكن تصنيفها بالقصص القصيرة جداً بمنظوري الخاص ونظرتي لهيكَلية هذا النمط من الكتابة السردية.
ولقد تقدمت المجموعة رؤية للناقد جاسم عاصي يشير بها الى تماسك النص، أي نص، بقدرته (على تقديم نفسه من خلال التزامه بالأسس الفنية من جهة، وتقديم ما يولد قناعات موضوعية من جهة اخرى، وبهذا يكون مثابة نص حامل لقضية تخص الوجود العام والخاص للإنسان) ص5.
أما رؤيته لنصوص الربيعي فيشبهها (بإيقاعات لمعزوفة يتشكل قوامها من جمل موسيقية تحكم الاداء، كل جملة فيها مستقلة بذاتها، وفي الوقت نفسه تتناغم وتندمج مع مجموع القطع الموسيقية بما يشكل كُلاً متماسكاً.) ص5، وهذا ما يحسب لصالح الكاتبة التي يرى الناقد انها اجادت ونجحت.
النصوص.. الهوية
تشكل نصوص الكاتب في معظمها هويته ورؤاه، وتعكس ثقافته من خلال الموضوعات التي يختارها أو اللغة التي يوظفها، فالهوية بمثابة السمة التي تمنحنها شهادة التعرف على الكاتب كقراء، وتجعلنا نتوقف لنقيس المدى الذي يقربنا او يبعدنا عن ذوقه التدويني وثقافته المعرفية مثلما نحدد سعة امكانيته على جذبنا الى منظومته الادبية أو ابتعادنا هاربين، وهذا ما وضعته الربيعي نصب انظارها كما يبدو، فقدمت نفسها بهوية أدبية صريحة وصادقة، وتقدمت الينا بخطى تتساوق عندها الصورة متمثلة بالفكرة، ومعها اللغة تتصف باللطافة والصفاء والوضوح، تاركة لنا قطف ورود المتعة القرائية التي هي في الاصل متعة الكتابة التي تتصف بها الربيعي، فـمتعة القراءة كما يشير لها غاستونباشلار في كتابه جماليات المكان (تبدو انعكاساً لمتعة الكتابة، وكأن القارىء هو شبح الكاتب)، تشبيه يحاذي الواقع الماثل، ولطالما تمنى القارىء نفسه أن يكون هو الكاتب بما كتب، وما عرض.
المرأة .. اللوعة المستديمة
لا تشذ الربيعي ككاتبة وكإنسانة عن اقرانها من النساء الكاتبات، وخصوصاً العراقيات منهن، في التعبير والبوح الصادقين وهي تدعو القلم الى التدوين، وقد جعلت من الحلم مفردة قاموسية في حياتها، لكنه حلم مقموع في النهاية، لا يتحقق كما ارادت بل كما اراد القدر الاجتماعي القاسي، إنها ابنة الواقع، تتلظى بالنيران كما تتلظى غيرها فلا تعرض سعادة لا وجود لها اصلا، ولا تجاهر بسرور لا أثر له في الواقع اليومي التفصيلي. فهي تحمل هما انسانياً يسري في الاعماق فتدع اللغة تتولى تجسيده صوراً كما هي بعيداً عن رتوش التزويق والتعديل والحذلقة، إنها تقول المعاناة، الذاتية منها والاجتماعية، فصورة تلك الجريحة التي انتظرت الغائب، في نص « عندما دقت ساعة الكريسمس»، ولم يجيء رسمته لغة الربيعي اصدق وأجمل تصوير، فالجريحة هنا تنتظره بلوعة، ويحملها الحنين الى الغائب البعيد بينما هو داخل دائرة الغواية، متأبطا كتاب النسيان ومعتاشاً على (مشرب يوزع المشاريب الكحولية مجاناً …. مع بائعة الهوى كارولين ذات الشعر المجعد والغمازتين الناعستين) ص14، وهي نفسها المعاناة في نص « مزق ملونة « (مرت اللحظات بطيئة … فرحها الممزق واحلامها التي تبعثرت وتلاشت، مزق اوراقه الملونة، ولهُها الذي أمسى فجأةً لوعةً مرتدةً إلى عمق روحها واضطراب ذاكرتها.) ص12، ونص « خيالات امرأة عاشقة « (ضباب يلتف كجلباب على تفكيرها، الوجود يضمحل، تصدع حائط صبرها المتين من ندب حظها وضربها عليه بكفيها، رفعت وجهها للسماء وغمغمت بكلمات مبهمة تبعتها حسرة طويلة.) ص17
وكنت آمل ان تتقدم الربيعي بنصوص تقدم فيها شموخ المرأة وصلابتها، وعنادها في اثبات شخصيتها كمخلوق لا نقص فيه، تتساوى فيه مع الرجل، وتناضل من اجل كسر شوكة اولئك الذين يطيحون بهيبتها وخلقها وكرامتها لتكون نصوصها خطابات التحدي، ومنشورات تجاهر بكفاحها من أجل سن قوانين المساواة والعمل مع الرجل سوياً من اجل البناء وصناعة السعادة.
ولكن لا بأس فهي المجموعة السردية الاولى .. انها الافضاء الذي بنى وجوده على ذاتية تختزن معاناة وألم، وتراكم جراح فوق جراح.