علي لفته سعيد
تبدأ المجموعة الشعرية للشاعرة اللبنانية فاطمة منصور (أنثى على غيمة) الصادرة عن دار السكرية 2018، في صيد قصديتها منذ العنوان الذي هو العلامة التي يمكن الاستدلال عليها في طريق القراءة، ومن ثم البحث عن خاصيات هذه القصدية التي تتجمّع حقولها كلّما مضى التلقّي في أبعاد الكلمات والجمل التي تشكّل وحدة البنية الكتابية في أغلب نصوصها، كونها معنية بالقصدية التي تتحرّك وفق اشتهاء الكاتبة لعنونة الفرعيات/ الحقول، وبالتالي فإن نسيج التلقّي سينتهي الى استحضار الأنثى المبثوثة في كلّ النصوص، وأيضا رسم ملامح الغيمة التي تنتظر المطر لسقي مرّة الجدب ومرّة الروح ومرّة العشق ومرّة الإنسان ذاته ومرّة وهو الأهم الأنوثة التي لا يراد لها أن تكون في قامة الحياة بكلّ عنفوانها، فيكون الحاصل ليس معنىً ايروتيكيا، بل معنىً استحضاريًا لماهية الأنثى التي تتحرّك على غيمة، أي في المنطقة العلوية لترى ما لا يراه الآخرون وتسقي من يريد السقيا سواء كان عطشًا أو لهاثًا أو مراقبةً او تأمّلًا.
فعنوان المجموعة ( أنثى على غيمة ) يثير السؤال مثلما يثير التأمل.. ويثير أيضا المفاضلة ما بين الإمساك والتحليق الذي ربما يعد هروبًا أو تعاليًا أو بحثًا عن لحظةٍ خارج المكوث اليومي في العلاقات التي لا تستقيم لأسبابٍ اجتماعية مختلفة الحجج.. الغيمة هنا ارتفاع مثلما هي إسقاء وأيضا حركةٌ وانتظار خضرةٍ وانتعاش وحتى لذّة.. الغيمة الواحدة لا تشكّل خطرًا فكيف إذا كان مبتدؤها أنثى تقود هذه الغيمة وإلّا ما هو سبب وجودها على غيمة؟
في المجمعة الشعرية التي تضم ( 58 ) نصًّا شعريًا احتوتها 124 صفحة فهو ما يعني إن النصوص هنا تأخذ منحى النصّ الذي يريد أن يمنح التأمّل لغته مثلما يمنح السرد قامته ويمنح الشعر شاعريته.. وخاصة وإن العنوان الرئيس وإن كان نصًّا من ضمن النصوص إلّا إنه كان جامعها في المعنى وقاصدها في الدليل وصيّادها في شباك التأويل وغايتها في الشعر، مثلما هو البحر الذي يجمع كلّ هذه الموجات رغم إن العناوين الرئيسة الآن يفضّل أن تكون من ضمن النصوص الفرعية وأن يكون بوابة المدينة التي يدخل إليها المتلقّي.. ولذا فإن البنية الكتابية في هذه المجموعة لا تأخذ الأبعاد الفلسفية بصورةٍ مباشرةٍ بل هي تعتمد على استكناه الجملة الشعرية الواحدة من أجل بلورة المعنى العام لجسد النصّ الواحد.. فهي تعتمد على مفعول الفعل الذي يتنفّس قصدية الشاعرة في استكمال روح النص الشعري.. بمعنى إن الخاصية السردية هي الموصولة الى ما تريد الشاعرة بثّه من عمليات القصد التي تنطلق بها في المدى لكي يتمكّن المتلقّي من اصطياد ما تريد البوح به بصوتٍ عال، لا تخفي عنه الغاية والهدف ليس بطريقة الماشرة أو الابتذال اللغوي أو التعكز على مفردات غائية بل من خلال المفردة التي تعطي معنى الجملة للوصول الى هدفية النص وبالتالي هدفية النصوص المتعلقة بالعنوان الاساس للمجموعة ككل.
إن بنية الكتابة تعتمد على ما تمنحه مفردة الغيمة ايضا من مدلولاتٍ عديدةٍ، فهي غيمةٌ عطشى وهي متلبّدةٌ وعلى ظهرها أنثى، وهي وشوشات البحر الذي تكوّن الغيمة فيما بعد، وهي همسةٌ ولذّةٌ وانتعاشٌ ورغبة.. لذلك فإن الكثير من المعاني تنتج لنا خاصيةً شعريةً تبدأ بها الشاعرة في أغلب نصوصها أما بفعل مضارعٍ أو بصفةٍ أو مفعولٍ متقدّم أو سؤالٍ راغبٍ بالتواجد.. ولذا فهي تعتمد على المستوى الإخباري لإنتاج النصّ.. ومن خلال هذا المستوى يبرز لنا المستوى التصويري الذي يعطي مدلول فكرتها الشعرية التي تبدأ وتنتهي دون البحث عن منفصلٍ لجملةٍ جميلةٍ هنا أو هناك، بل عن النصّ ككل، وتلك صعوبة الجمع بين المفردة في الجملة وبين الجمل في النصّ، خاصة وإن هناك من يعتمد على الجملة الشعرية التي يتم اختيارها على إنها دلالة التميّز في النصّ، في حين تسعى الشاعرة الى أن تكون جملها في جسد النصّ كلّه لتمنح الدلالة من خلال قوّة المستوى التحليلي الذي يلي الاستهلال والتصوير. وبالتالي ينتج لنا ايضا المستوى القصدي الذي بالإمكان اصطياده في منتصف النصّ لأن الاستهلال يأخذ خاصية الإخبار ومن بعده التصوير. ولو أخذنا نموذجًا لما طرحناه في نص
(مَصْيدَة) سنجده قد بدأ بفعلٍ مضارعٍ: ( نهزّ) وهو فعل إخبار لما هو تصويري قادم (ُ ضِياءَ أحلامنا النّائِمَةِ في جُفونِ النُّعاس) ثم تبدا بالمستوى التحليلي الذي يعطي شرحا لماهية العنوان وماهي الاستهلال (نَجرُّها كسُلْحفاةٍ/ لِحِوارِ الفُصولِ الشَّاقَّةِ). ثم يأتي دور المستوى القصدي الذي هو ذاتية الشاعرة المتعلّقة ليس بالجملة الحياتية، بل بالجملة الشعرية التي تبوح نيابةً عنها: (وَعَدْتكَ../أنْ أهادِنَ النَّغْمَةَ بِفلولِ الهُمومِ/ وأعْزفُ على غارِبِ الرّيحِ نَسيمَ الحَواس). وهذه القصدية التي تحاول ألّا تمشي بوضوحٍ تحت الضوء المباشر، بل من خلال فعل جمع المعنى فينتج لنا مستويين هما المستوى التأويلي والمستوى الفلسفي المتعلّق بالثيمات الأساسية في هذه المجموعة وهي الانعتاق من رقبة البوح السرّي الى الشعري: (لا أثَرَ يُلهي الأرضَ بِربيعِ المَطَر/ نائمٌ مثل رَجُلٍ مُسِنٍّ/ لم تأتِهِ شَهواتُ الهُطولِ.)
إن المجموعة التي تبثّ نصوصها في مقاطع شعريةٍ لا تنتمي الى الومضة ولا تنتمي الى النصّ الطويل الذي يشرح الماهية، بل هي تريدها حلقةً وسطى للوصول الى المبتغى المأمول.. فكلّ ما هو انعتاقٌ قابلٌ لمنح الدلالة مدلولها الشعري. لذا فإن جملها الشعرية هي مجموعة علاماتٍ تبدأ بالعنوان كمستوىً إشاريٍّ، الى الاستهلال كمستوىً أخباريٍّ، وما يليه التصويري ثم المستوى القصدي فيكون النصّ سلسلة من المعاني المترابطة التي لا تكتمل حتى حضور النهاية وهو المستوى التأويلي وبالتالي إنتاج علاقة فلسفية بين كلّ المستويات.
إن الجسد النصّي في المجموعة قد يبدو بسيطًا لكنه يحمل عمقه.. فجملة: (آهٍ أيُّها الحُلْمُ الغافي/ في أخْيِلَتي مُنْذُ دُهورْ/ ها قَدْ أصْبَحْتَ حَقيقَةً) من نص ( غفوة ) قد تبدو استهلالًا بسيطًا لكنه حين يمشي مع النصّ نجد هذه البساطة في المفردة دليل على الإتيان بالمعنى الشعري الذي بني عليه النصّ وهو الأمر الذي نراه في أكثر من نصٍّ ايضا: (موصدة أبوابك دوني/ أستعصى بوحك لي/ هل أطرق باب التمني؟) من نص ( سفر الروح) وكذلك نجد البساطة في المفردة في استهلال نصّ (صحوة …الأنا) حيث تقول: (حين /نامت الشوارع /على الأرصفة/ كانت أريكة الليل) فضلا عن نصّ يكون فيه البوح مهادا للقول: (من نافذة أيامي /أهديته أحلا ما عندي/ عبق ودف ءأحلامي/ ملونة كوجه طفلة/ في خديها/ حمرة/ ورقة/ وسحر/ ولا أرقّ) من نص (لهفة …مشاعر)
بمعنى إن المفردة في المجموعة تحمل بساطتها لكنها تحمل قصديات الشعر الذي تريد بعثه الى المتلقّي من خلال بوحٍ ليس صامتًا أو هامسًا، بل صارخًا بكلّ الرغبات التي تعطي هدفيتها في النهاية.