أحمد المؤذن
الإشارة حمراء ، سيل متكدس من المعدن الجهنمي يتقيأ ضجيجه الدخاني الخانق.
صيف عدائي مثل صاحب السيارة « الهامر» يلاصقه من الخلف ، يطلق نفير سيارته غاضباً من الإشارة التي تفتح المسار بالتقسيط المريح . حافظ على برودة أعصابه ولم يكترث لصاحب السيارة المتوحشة ، ولكنه التفت لحيرة وجهها الجميل فوق رصيف من الانتظار والقسوة.
ما أقساه من عالم ، حري بهذا الجمال أن يركب أفخم سيارة على الشارع لا أن يهمل هنا للحر والزحام والدخان.
لوح لها من وسط الزحام ، الإشارة حمراء ، خطواتها سريعة ، أعين الرجال أسرع وكأنها تبدي التفاتاتها مستيقظة على غفلة ، كيف فوتت هذا الملاك !
جاءت إليه وصعدت السيارة ، اختارت مقعد الراكب الأمامي !
دفع إليها علبة المحارم الورقية ، تأمل تعب وجهها الأنيق القسمات ذاب نصف ما عليه من بودرة الزينة ، تضع عدسات ملونة أم إن هاتين العينين لحورية من الجنة نزلت للأرض ؟ !
الإشارة خضراء، أبواق السيارات غاضبة، الرتل الطويل أمامه تحرك ارتبك قليلاً وهي تضحك . لذيذة هذه الضحكة ، تؤنس الروح بعد يوم عمل روتيني متعب وقال لها :
– نعم أضحكي .. ماذا بها الدنيا ؟
التفتت إليه ، نظرة فاتنة من عينين تهاجمانه بجرأة فقالت :
– خذني إلى أي مكان تريد ، وأنا سأبهـ…
أنامل من جمر أو معصية .. ماذا فعلت؟! جمد من حركتها الجريئة ولم يرف لها جفن تبدو واثقة من نفسها، صرخ فيها:
– يا ( ………… ) ماذا فعلت ؟
– غبي أو تستهبل ، خذني إلى أي مكان ، سأراعيك في السعر !
– أنا لم ………
– أنت ناديتني لغرض واحد !
غمزته بعينها اليسرى ، ضحكت بخبث وعبثت بأصابعها في شعره ، ازدادت عواصفه
اتقاداً ، شيطانه هنا ينفخ في جمر الفرصة السهلة لم لا يأكلها وهي مشتعلة اللذة ؟! عشرينية تفيض طراوة وتمرداً ، ستُنعش ما تيبس من عروقه الظمآنة وتمضي به إلى فراديس النعيم .
عن أي فضيلة يتحدثون ؟ عالم يحكمه البغاء والجنون ، هيا لا جدوى من أقنعة الطهارة فبدواخلنا مساحات معتمة من الزيف لا نكشف عريها ، الفرصة في اليد ، الراتب ينتفخ بخيره الأخضر في المحفظة ، هذا الانتظار الأخرق الحائر على رخام الأخلاق لا جدوى منه الآن !
الحياة بلا متعة انتحار مؤجل .
شيء من التغيير يشعل الروح .. الآن الطريق إلى السعادة يبدأ من هذه الانعطافة إلى ساحل البحر . نظراتها كلها ثقة وتحفز ، تركها تعبث بشعره المصبوغ ، تعبث بأحاسيس أسمنتية تتصدع ، عما قريب تفجر ماء معصيتها وترتااااح ، أوقف محرك السيارة ، أسنَدت رأسها الجميل إلى عطش صدره .
هاهنا ساحل مهجور ، السيارة مموهة نوافذها بقتامة ( الرايبون ) ، تفاحة تتعرى من قشورها ، صدر لؤلؤي بخيره الطافح وعرقه الشهي ينتظر مرتعشاً ضراوة المبادرة .. وجبة شهية من اللحم الأبيض تتهيأ وتتعطر له في اللحظة الفاصلة ، لكنها لفظت يده بفضاضة وانتقلت للخلف ..
– ادفع أولاً يا حبيبي !
بيدين مرتعشتين فتح محفظته ، الهاتف يترنم بأغنية عاطفية يحبها ولا يعرف الآن لم يحبها ولكن يتجاهلها ، شاشة الهاتف تومض بطيفها المستكين ، طهارة ضحكتها تأتي الآن وتنقذ خرابه .
محفظته تجمدت في يده ، المومس قبحها يتهتك احتراقاً في المقعد الخلفي ، معاول تحفر في ذاكرته الصور تصرخ فيه تؤذن نورها الخفي ، أم سمير الحبيبة .
يحدق بشاشة الهاتف ، تستيقظ حواسه وتنظف نفسها من الوحل . أي شيطان لعين مارس لعبته الدنيئة هذه ؟؟ التفت إليها وقال :
– انتهى الموضوع لا أريد .. أنزلي من السيارة .
– عندي طفل في البيت يحتاج للحفاظات والحليب بكاؤه اللعين لا يتوقف حاسبني بأربعين دينار أو … أشتكيك للشرطة !
فكر محاولا النفاذ بجلده من الورطة .. شغل محرك السيارة وقال :
– نذهب للشرطة ، أصحابي هناك سيقومون بالواجب ولن تندمي .
دب الخوف في عينيها لملمت خزيها على عجل وخرجت مبتعدة تلوث سمعه بالسباب ، يبتعد عن المكان ، يتنفس بعمق ويضحك صافي النفس لا يشوب اطمئنانه شيء .
الهاتف يترنم مرة أخرى ، فيتمايل طرباً ويرد :
– يا أحلى حبيبة ، قلقك اللذيذ يسعدني والله ، تعطلت بي السيارة في الشارع غصبا عني ، نعم نعم نصف ساعة وأنا في البيت .
عاود الضحك وهو لا يصدق سخافة الموقف كيف نجا وأفلت من تلك الأفعى ؟ صدقت الكذبة بسهولة !
واحة أمان يستريح فيها ، زينة الدار بهذه الزوجة الطيبة ، المسكينة صدَّقت كل كلمة وأفشت ابتسامتها راضية . ترك ثوبه معلقاً فوق الشماعة ، ترك شقاء النهار ونام بعد وجبة ( البرياني ) الدسمة ، نام مخدراً من طحن الحياة .
البيت هادئ ، أحكمت ستائر الحجرة وشاركته الفراش .. كيف مر الوقت بسرعة جنونية ؟ كيف انفجر هذا الكابوس الأرعن ؟ هزة عنيفة توقظه من قيلولة الظهيرة ، هزة أخرى تتبعها هزة وصرخة !
استيقظ ليرى وجهها محتقناً بالأسف والغضب والدموع ، يسألها فلا يجد إلا بكاؤها فيزداد حيرة . لم يلبث في حيرته يبحث عن إجابات حتى رمت فوق السرير حقيبة بلون القيء دلقت ما بأحشائها من سم المفاجأة ، الصاعقة تكبله الآن ، مدهوش النظرات ، إحساسه مشلول بالكاد رفع سماعة الهاتف ..
– نعم
– أنت السيد محمود صاحب السيارة رقم ( ………. )
– نعم أنا هو ، خير إن شاء الله.
– أكلمك من مركز شرطة العاصمة ، عندي هنا شابة تتهمك بالاعتداء على عرضها وسرقتها !!