ثوبٌ شفاف

شيماء المقدادي
صراخُ أخيهِ الأصغر بينما يمسكُهُ والدُهُ وعمُهُ لإكمالِ عملية ختانهِ وسطَ زغاريد النسوةِ في البيتِ تصحبَ سمعَهُ وهو يتّجهُ إلى بيتِ جارتِهِ ليدعوها حسب طلب أمّهِ لوليمةِ الغداء التي أعدّوها، ولأنّه خرجَ حافيا في ظهيرةِ تموز اللاهبِ لم يتوانَ عن الدخولِ إلى البيتِ الذي كان بابُهُ مواربا. لم تتجاوز خطواتُهُ أكثر من مدخلِ البيتِ حتى صاحَ بأعلى صوتِهِ ( خالة أماني) والتي وقفتْ أمامهُ بسرعةٍ لم يتخيلها، كونها كانت تخرجُ بنفس الوقتِ من إحدى غرف بيتها دون أن تشعرَ أنّ هناك من دخله . ثوبُها الشفافُ الأبيضُ الذي شفَّ عن ملابسِها الداخليةِ مع وقوفها المفاجئ أمامهُ جعلتُهُ متسمرا في مكانهِ فاتحا عينيهِ على اتساعهما، لم ترجع أماني لتسترَ جسدَها فما هو إلا ابن جارِهم ذو السبعةِ أعوامٍ، سألته بصوتِها الذي فيه مسحةٌ من الخشونةِ ( ماذا تريد؟) ليبقى صامتا محملقا في هيئتها متأملا وجهها الذي زينتهُ بقلمِ حمرةٍ وكحلةٍ بينما شعرُها الأصفرُ الفاقعُ ينسدلُ بدلالٍ على جانب كتفها الأيمن، بدا لهُ أن طولَها تضاعفَ حتى كادَ يصلُ السقفَ.. بينما ساقاها بدتا لهُ مثل جذعي نخلةٍ ذكّرتهُ بنخلاتِ بستانِهم الصغير الذي يجيدُ تسلقَها.. أمّا جذعها الذي رآه يلتفُ وهي تبعدُ قطةً صغيرةً دلفت إلى المنزلِ، فبدا لهُ مثل محراثِ التنور الذي تحرّكُ أمّهُ فيهِ الجمرَ والنارَ؛ لتعيدَ السؤالَ وهي تضعُ باطنَ كفّها على عينيه ضاحكةً لتلك الحالةِ التي تلبستهُ. وبدلَ أن يجيبَها حلّقَ بهِ العطرُ الذي فاحَ من باطنِ كفّها إلى مكانٍ لا يعرفُهُ، عندها أمسكتهُ من كتفِهِ ووجهتهُ نحو الخارجِ وهي تسألَهَ ( ماذا تريد؟) لتقعَ عيناه على طرفِ بيتهم من فتحةِ البابِ الذي كانت لا تزالُ مواربةً وتذكّرَ الطعامَ الذي وضعتهُ امّهُ لهُ ولأقرانهِ ليتناولوا غداءهم بعيدا عن الكبار . التفَت نحوها وهو يبلّغُها بسرعةٍ عن دعوةِ أمّهِ ثمّ غادرَ بعد أن سرقت عيناه بياضَ أعلى صدرِها الذي كان مكشوفا من الثوبِ عادَ إلى أقرانهِ وراحَ يتناولَ الغداءَ والثوبُ الأبيضُ الشفافُ يدورُ في رأسهِ مثل سربِ حمامٍ، لم يخبرْ أحدًا من رفاقِهِ، كأنّهُ خشي أن أخبرَ أحدَهم أن يتقاسمَ معهُ هذه اللحظاتِ التي أرادَ أن تستحوذَ عليها ذاكرتُهُ فقط.
ظلت هيئتَها تلازمُهُ مثل متلازمةٍ ما، تلك التفاصيلُ التي حفظتها عيناه جعلتهُ يلحقُها كلما انتقلت الى محلةٍ جديدةٍ أو منطقةٍ أخرى وأخرى، رغم إنّ رؤيتها بتلك الطريقةِ لم تتكرر. حتى تاهَ أثرُها وبقيت حاضرةً في ذهنهِ عند كلِّ ثوبٍ شفّافٍ أو رفرفةِ أجنحةٍ بيضاء. ولطالما ضحكَ منه أصدقاؤه وهم يرونهُ متسمرا عند كلّ فاترينة لمحال ملابسٍ تعرضُ ثوبا شفافا أبيض، حتى إنّهُ حين تزوّجَ طلبَ من زوجتِهِ أن تشتري الثيابَ الشفافةَ البيضاء التي لم تلاقِ كلّها إعجابه فهو يريدُ ذلك الثوبَ الذي دغدغَ لسنواتٍ مشاعرَه. كلُّ تلك الصورِ داهمتهُ مثل كائناتٍ شيطانيةٍ لحظة وقعت عيناه على وجهِ المرأةِ التي تصحبُ طفلةً بيدها (ربما حفيدتها) وهو يقطعُ طريقُهُ إلى المقهى الذي ينتظرُهُ فيهِ بعضُ الصحبةِ، وقفَ متسمرا وهي تتجاوزُهُ كما وقفَ وهو طفلُ، لكنّهُ لم يكن متأكدا إن كانت تلك التي تسيرُ أمامَهُ الآن تحملُ خطواتِ الزمن في وجهها وانحناءة بسيطة في ظهرِها هي ذاتُها ام تشبهُها! رفضت نشوةَ طفولتِهِ أن تكونَ هي وليؤكدَ لنفسِهِ إنّها ليست هي ناداها كما كان يناديها وهو طفل ( خالة أماني ) لكنّها لم تلتفت نحوهُ وواصلت سيرَها بصورةٍ طبيعيةٍ مضى لطريقِهِ وهو يتنفسُ الصعداءَ وكأنّهُ خشيَ تحطمَ شيئا بداخله. بينما كانت المرأةُ تحثُّ الطفلةَ الصغيرةَ التي كانت تخبرُها دون جدوى ( جدتي لقد نادى الرجلُ باسمك) للسيرِ وعدم الوقوفِ أمام المحالِ كونها نسيت سماعاتِ الأذنِ الخاصة بها ، كان هو يجلس لأولِ مرةٍ ليتحدثَ عن الحماماتِ البيضاء التي لا تكفُّ عن الرفرفةِ في رأسِهِ.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة