لم تكن تقنية الكتابة وحدها هي ما فصل تجربة الشاعر العراقي علي جعفر العلاق عن أبناء جيله ومن سبقه من قامات شعرية عراقية مؤثرة استحوذت على الشعرية العراقية وصبغتها بأساليبها وتقنياتها وحتى لغتها. لكنّ العلاق امتاز بنظرته غير المؤدلجة إلى الحياة وبحياته الجدلية والمجربة مع اللغة وباللغة ما وضعه في مكان مختلف، كما نرى في المختارات الشعرية التي صدرت له مؤخرا
كان علي جعفر العلاق شاعرا استثنائيا في مواجهة جيل من الشعراء العراقيين كانوا قد احتكروا سلطة الشعر كما لو أنهم وعده الأخير ونذكر منهم فاضل العزاوي، سامي مهدي، حسب الشيخ جعفر، سركون بولص، حميد سعيد، يوسف الصايغ وسواهم من شعراء العقد الستيني الذين ظنوا أن ثورتهم الشعرية ستأخذ مداها عبر عقود لاحقة من الزمن. ما لم يكن يخطر في بالهم أن يخرج فتى شاعري لا يمت إليهم بصلة ليؤلف تجربته بعيدا عن بيانهم الشعري. صحيح أن العلاق كان وفيا في بداياته لتأثيرات أدونيس في تركيب جملته، غير أن تلك التأثيرات كانت تكشف عن الهضم أكثر مما توحي بالانصياع.
نصوص مختارة
يُقدم الشاعر العراقي علي جعفر العلّاق في كتاب “تفاحة الضوء”، مجموعة مختارة من القصائد التي تمثّل مجمل مسيرته الإبداعية التي بدأت في ستينيات القرن العشرين، وضمَّنها ديوانه الأول “لا شيء يحدث.. لا أحد يجيء”، الصادر عام 1973، وصولًا إلى قصائد ديوانه “فراشات لتبديد الوحشة” الصادر عام 2021. في هذا الكتاب، يستعيد العلّاق أجواء ومضامين ومناخات حوالي عشرين ديوانً من إصداراته السابقة، منها على سبيل المثال “وطن لطيور الماء”، و”شـجر العائلة”، و”فاكهة الماضي”، و”أيّام آدم”، و”طائر يتعثّر بالضوء”. وجاءت المختارات، الصادرة عن “الآن ناشرون وموزعون” في الأردن في 454 صفحة، وحفلت النصوص فيها بحالات وجدانية تنقَّل خلالها العلّاق بين موضوعات وأقانيم متعددة خاطبَ فيها المرأة والصديق والوطن والعائلة وتناول الأحداث التي أثرت تجربته الإنسانية والإبداعية على مدار ما يناهز النصف قرن من الزمان. ويرى الناقد والشاعر العراقي فاروق يوسف في كلمته على غلاف المختارات أن غنائية العلّاق كانت إحدى العلامات الفارقة التي ميزت تجربته، مبيّنا أنها “كانت من صُنْع اللغة، وجاءت مستلهَمةً من عجينتها كما لو أنها مرآتها، أو أنها قُدَّت منها”. ويُضيف مبينًا ملامح هذه الغنائية “حرصَ العلّاق على رعاية النغم الداخليّ الذي يحْدُث عند لقاءِ المفردات أو تصادُمِها ببعضها، كما لو أنّ تلك المفردات لم تلتقِ من قبل، حتى ليشعر القارئ أنّ الشاعر قد حذف الكثير من الكلمات التي وقعتْ خطأً في المسافة التي تفصلُ بين مفردتين كانتا تتجاذبان عن بُعد، من أجل أن يَصْدُر نغمٌ بعينِه هو في حدّ ذاته هدفُ القصيدة”. وتظهر تلك الغنائية ممتزجة بالصور الفنية التي تغذّي شوق القارئ إلى العوالم شبه السحرية التي يرسمها العلّاق. نقرأ في “القصيدة المائية” من مجموعة “وطن لطيور الماء” الصادرة عام 1975: “ذاكَ وجهُكِ، من أيّما أُفُقٍ تنظُرينَ؟/ أرى غابةً مَلأتْها العصافيرُ:/ تهرُبُ من مطَرِ الصيفِ، والوردُ فاجأَني ليّنًا../ وثيابُكِ، تلك السماءُ الخفيفةُ،/ تأخذُني لمواسِمها/ (إنّ موسمَكِ الرخوَ/ دشداشةٌ تخلِطُ الصيفَ بالماءِ،/ والماءَ بالصَيْفِ..».
وتحافظ الصورة في قصائد العلّاق على نصاعتها، لكنها تمتزج بتراكمات السنين التي تترك تأثيرها في نفس الشاعر وفي لغته وموقفه من الحياة، فنراه يخاطب القارئ في نصّ يجمع بين الذاتيّ والعام من مجموعة “حتى يفيض الحصى بالكلام” الصادرة عام 2013: “صنّاعُ هذا الحنينِ الممضّ../ بناةُ المجاعاتِ وارفةً../ وارثو لعنةِ الأوّلينْ../ ليس من وطنٍ نتعشقهُ، ليس من بلدٍ/ ليقـول: ادخلوا آمنينْ../ ليس من مطرٍ كي نلمّ لآلئَهُ بالشباكْ../ ومنذ ابتداءِ الحنينِ طريًّا ومنذ اندلاع الهلاكْ/ وهتافاتنا تنهشُ الريحَ:/ يا مطـرَ اللهِ دعـنا نراكْ”. ويظهر حنين الشاعر للعراق، وطنه ومهد طفولته، في غير مكان من المختارات، وهو حنين يعكس وجهة نظره التي ترى أن ارتباط المبدع بالمكان هو ارتباط حتميّ وقوي وحميم. ويقول في قصيدة “حنين عابر للطوائف” من ديوانه “فراشات لتبديد الوحشة” الصادر عام 2021: “إنه الدرويشُ العابرُ بين الثعابين/ المسكونُ بقصائد الحنينِ العابرِ للطوائف/ سيّدُ الأنهارِ التي كفّـتْ عن النحيب/ بعد أن يبس فيها الماءُ وأينعتِ الحجارةْ../ رأيته أمس:/ وهو يصغي إلى المتنبّي/ حين كان يودّعُ بلادًا لا صديقَ بها”. وإذا كان العلّاق قد قال في لقاء صحفي “لا أنا منفيّ ولا أنا مقيم. وهذه الثيمة تتشظّى في كل شعري؛ فالإبداع العراقي كذلك يتبعثر ويتشظى والكل في ترقُّب للمجهول”، فإن هذه الحالة من التشظي التي يشكو منها تظهر في غير نص، منها “متعَبًا أدخل البيت” من مجموعة “طائر يتعثر بالضوء” الصادرة عام 2018: “متعبًا أدخلُ البيتَ/ أبحثُ دون طائلٍ عما يعينني على النومِ../ لا نعاسَ ينتظرني في السرير../ لا ليلَ يتمشّى حنونًا خارجَ النافذةْ../ ليس إلّا رجالٌ يشقّون ذاكرتي/ بمخالبهم.
البشر صناع الشعر
يذكر فاروق يوسف متحدثا عن العلاق أنه ما بين الآلهة والبشر كان الشعر بالنسبة إليه صنيعا استثنائيا، في طفولته كانت اللغة طريقه إلى العالم. وهو ما تعلمه في سن مبكرة من أبيه الذي كان يردد الشعر تلقائيا نوعا من الحكمة المجاورة. يومها كان يظن أن الشعر صنيع إلهي غير أنه سرعان ما اكتشف أن البشر هم صناع الشعر وحاملي شعلته. ويضيف يوسف “ويا لها من صناعة خيالية، تستفيق من خلالها وحوش اللغة ليعيد الشاعر ترويضها وهو ما كان العلاق يحرص دائما على أن يفعله، من غير أن يضل طريقه إلى المعنى. بل إن لغته كانت تلمع كلما اقترب أكثر من المعاني الإنسانية التي يقيس من خلالها درجة شعريته”. ويرى أن العلاق انفرد من بين أبناء جيله بخصلتين تلازمتا طوال مسيرته الشعرية: لغة نقية صارمة تتجلى وتسيل من غير أن تنحرف عن طريقها ومعان تشفّ عن مضامينها بوضوح استثنائي. غير أن موسيقى اللغة تغلب، وهو ما نجح الشاعر في تطويعه ذاهبا ببلاغته إلى منطقة شبيهة بتلك المناطق البحرية التي كان الرسام البريطاني تيرنر مولعا برسمها، حيث لا يخفي الضباب حقيقة أن هناك عاصفة قادمة. في شعر علي جعفر العلاق الكثير من العواصف العاطفية التي تختبئ بين ثنايا لغة، هو خادمها وسيدها في الوقت نفسه.
أما الناقد كمال عبد الرحمن فيرى أنه في تجربة العلاق الشعرية تمتد خيوط التكهن من حافة العنونة أو تبهرجاتها أو انطوائياتها إلى الغائص من المتن حيث تشي هوية النص بإحداثياتها أو تغلق بواباتها السرمدية بوجه محاولات الكشف هذه من دون منحها خيطا من نسج الكتابة قيد التحليل والمقارنة.
وهذا يؤسس، وفق رأيه، لحاسة الوحشة المدغمة باليأس، مما يعطي العنوان بصيرة نافذة، لها القدرة على اختراق الأرض “الحرام” والأسلاك الشائكة وحقول الألغام، والتلاعب بمصائر المتن ومقدراته.
تحيلنا نصوص العلاق إلى الإقرار بأن النص الأدبي أيا كان شعرا أو نثرا هو كيان لغوي قائم على الانزياح الذي يمنح المفردات حياة جديدة من المعاني والدلالات بعيداً عن حدودها الضيقة داخل معاجم اللغة، فلغة الشعر مخالفة للغة أي جنس أدبي آخر، وهي وعاء النص الفني ونسيج تكوينه، وكلما تحصن النص بلغة رصينة ذات معايير وتقنيات متطورة، تسامى النص في فضاءات تشكيل مغايرة للراهن الشعري، يؤهله بذلك عمق الدلالات الرؤيوية للغة الجديدة.
وبعيداً عن الطاقات التوليدية التي توفر للنص مؤهلات فنية وتقنيات عدة، تبقى اللغة وحدها القادرة على تقرير مصير النص إبداعيا فاللغة داخل نص العلاق قائمة على الاختزال والتكثيف، وهي أكثر قدرة على البث الشعري في إطار بنية القصيدة الجديدة، واللغة الشعرية هي لغة المجاز، وهي مجموعة من المجازات والاستعارات البلاغية، وباختصار هي لغة منزاحة.
ويُذكر أن العلّاق وُلد عام 1945، وهو حاصل على الدكتوراه من جامعة إكستر في بريطانيا عام 1984، وحاصل على جائزة العويس للشعر ، عام 2021. عمل أستاذًا للأدب والنقد في جامعة صنعاء، ثم في جامعة الإمارات العربية المتحدة . ويُقيم في مدينة العين في دولة الإمارات ، وله إضافة إلى إصداراته في مجال الشعر مجموعة كبيرة من الكتب النقدية، بدأها بـ”مملكة الغجر” (1981)، ودماء القصيدة الحديثة (1988)، وصولًا إلى “في مديح النصوص” (2019)، و”المعنى المراوغ” (2020).
- عن صحيفة العرب