عمق المفردة الحسية وسحرها في “حائط شعر احدب”

يوسف عبود جويعد

المجموعة الشعرية “حائط شعر احدب” للشاعر فلاح الشابندر، ومن خلال تراكيب فنية، ورؤية فنية وفلسفية وأدبية، ينطلق بنا الشاعر في هالة ضوئية متوهجة ليقوم بصناعة قصائده النثرية الشعرية، وتلك التراكيب في تشكيلها وتكوينها، أشبه بدائرة تدور مليئة بالحس الشعري، بهواجس تنبع من الذات، بل تنبع من أعماق الروح، وسط تلك الهالة المتكونة من: العزلة، الوحدة، الفراغ، السؤال الوجودي الدائم، الوهن، الكبر، الوحشة، الضياع، الحب العتيق، وغيره من الاحاسيس والهواجس والتداعيات التي تسكن الشاعر وتعيش معه في حله وترحاله، فتنبثق المفردات الشعرية تحمل أكثر من معنى، وأكثر من زاوية نظر، لتتفاعل في عملية بناء فني مكونة القصيدة الشعرية، التي تنقل القارئ من عالمه الى عالم آخر، عالم شعري قل نظيره، حيث نجد في نص شعري يستهل به المجموعة واحداً من العناصر المركبة حيث يقول:
صفعتُ وجه الطَّاولةِ
حسبيَ وجهُ الضَّجرِ
فراغٌ أخرس!
فهذا الفراغ يؤرق الشاعر ويبعث فيه السقم والضجر، لأنه يرنو الى حياة خالية من الفراغ الأخرس.
أما القصيدة النثرية الشعرية (أُمِسِيةْ زُجاجية) فإنها وفي عملية صناعتها، وكأننا نطوف في عالم من الزجاج المنزلق الندي، بسبب رذاذ المطر المتساقط على وجه الزجاج، وكل شيء فيه يوحي الى هذا المعنى حتى الحبيبة:
في أمسيةٍ مِن زُجاج
نلتقي السُّوق فِضَّةً
على راحةِ الليلِ
ينزلق تلامسُ الظَّلالِ على سَرابِ
الزُجاج
نمضي
آدمية عُري أبكمَ
هبةُ رثاءٍ عُرِيُّنا الفاضحُ
ثيابُ الفصولِ
سيَّدتي الدُّميةُ
ليسَ هناكَ مَنْ يرْقُبنا
سِوى الصَّحراءِ
عارية الثَّوبِ
أما القصيدة النثرية الشعرية (الرحا) فأنها تنقلنا الى رؤية فنية وفلسفية ورمزية من خلال شمولية الصورة الاستعارية والانزياحية وما تخلفه من أحساس داخل المتلقي، ولا مصير لحبة القمح سوى الارتماء في قلب الرحا لتطحنها، أو عصفور ينتظر نجاتها، وهي بحد ذاتها صورة متأزمة لوجه الحياة الداكن المغلق الاسود، الذي لا يجد طريقاً سوى الرحا:
تدُور الرُّحا رَحاها
أفزعَتْني فِكرةٌ سريةٌ
دُون الحصَاد المنتشر
وَغُرَفُ الخَزينِ العُلويةُ
مَا كان في الحُسبانِ
أنْ أصيرَ
يُغازلني
يُنازعني البَقاءَ
حَبةُ قَمحٍ
عُصفورُ الحَصَاد
أتقاطع بما لنْ يَحدثَ
فلا حَقْلَ
ولا عُصفورَ الحَصادِ
وَلا خيارَ لِحبَّةِ القَمح
إلا الرُّحا
أما القصيدة النثرية الشعرية (مت قاعداً) فإنها وفي تشكيلها وتكوينها وسحر بنائها تنقلنا الى حيث الوهن والكبر، وحياة “المتقاعد” التي تعني “مت قاعداً” لأن التقاعد يعني الانسحاب من مباهج الحياة، الانسحاب من العمل والاستسلام لكبر السن وممارسة الحياة على تقتضيه هذه المرحلة، والتي يظل الرجل الكبير، يرنو الى الشباب الى الحيوية، الى الحب، الى أشياء كثيرة تركها وسوف يتركها، وتضعنا هذه القصيدة بصور شتى من حياة المتقاعد:
في لحظة زعيقٍ
النَّفيرُ الصَّوتي للتنبيهِ
الشَّارع فارغٌ
وليس أكثر ممَّا يلزمُ
زحامٌ في مكتبٍ للصَّيرفة لاستلام
الراتبِ (كي كارد).
ومثل ما هو شائعٌ في اللافتاتِ:
“يُرجى التأكدُ من الحسابِ قبل المغادرةِ
ممنوع التدخين”
الى آخر تلك القصيدة التي تنتقل من صورة الى أخرى، وهي تصف حال المتقاعد.
وفي قصيدة ( قلبُ عائم……) يصف لنا الشاعر عالم العزلة وسط تعاقب الليل والنهار وهواجس وافكار القلق، والتداعيات الذاتية المبهرة نستقطع منها:
إلى صديقتي…..
الشَّمسُ بجلالها الضاحك
وعُريها….. الثَّمِلِ
دونك ، يقينها
الصَّحراء…..
وما منْ بدايةٍ
انتهتْ قِصَّتك..
تلك البدايةُ
تهرب.. بي.. أنْ.. اهْرب!
وفي القصيدة النثرية الشعرية (حائطُ أَحدَبِ) نجد هذا الحائط الشعري الأحدب، هو ذات الشاعر التي يغلفها النسيان والزهد، وكأننا نخال في هذه القصيدة أن الشاعر هو قصيدة شعرية تمشي على الأرض وتلملم أنقاض ما تبقى في ذلك الظلال:
مِن ألفِ نِسيانٍ
حائطٌ أحدبُ
يَنحَدرُ ظِلهُ الزَّاهدُ
نَمضي انتظارهُ
مًنتشراً يُلملمُ أنقاضه
يُلملمُ بِنا النَّسيانُ
صُعوداً
حَاصرةَ الحَائطِ
مِنْ بين..
الجُرحِ- الشَّرخ
وفي القصيدة النثرية الشعرية (أفولْ التلاشي) نكون مع تموجات شعرية حسية بالغة العمق، نحو التلاشي، نحو اللامرئي، نحو الضياع، نحو بصيص الامل الظاهر في افق الحياة، نحو ضوء نافذ يكون متنفساً لشاعر، يحلم بالوجود والبقاء والحب، الا أن لا شيء سوى التلاشي، يبرق بوميض حاد مخلفاً رحلة كبيرة من الذكريات:
برحاب اللامرئي
يشاغلني طيفكِ
طعنة التلاشي….
كصباح…..
برحابِ المرْئي
شغبُ غبارٍ
منشورُ شعاعٍ
شمس غاربةٌ..
أفول التلاشي
عسعسةٌ…!!؟
وفي قصيدة (ما يجول في خاطر الشمعة؟؟) نكون في مناجاة بين الشمعة والشعر، وبين الفراغ والصخب، وبين متضادات مختلفة يخلفها هذا النص الشعري:
وجُهكِ لامحُ الشّمس
وَليَ لامحُ الظلُ
ما يستتر ظاهرُ الفراغِ
نقطةٌ.. أجهلها
والتي لا يمكن أنْ
أكونها..
وهي كلُّ ما فقدناه
ظلُّ وشاخصٌ…!!؟
كينونتي الظاهرةُ في غياهب الأفول
أعود أتعثر بدهرٍ وجهيَ السّاكت
وهكذا وبعد طوافنا الشعري الشفيف في عالم الشاعر فلاح الشابندر ومن خلال مجموعته الشعرية “حائط شعر أحدب” نجد أن صناعته للقصيدة الشعرية، نابعة من عمق أحاسيس ومشاعر وهواجس وأفكار ومناجاة وتداعيات كلها تنطلق بصوتٍ شعري أخاذ، فالشاعر لا يضع مفردةٍ الا تكون شعراً، ولا يصنع قصيدة الا من عالم الشعر، ليخط رؤاه الفنية الخاصة.
من اصدارات العارف لعام 2024

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة