الامتيازات لا تصنع أوطاناً

جمال جصاني

لبس وغموض ومتاهة لا حدود لها، تزيدها حالة الاحتقان والتمترس السائدة في المشهد الراهن؛ ضياعاً واغتراباً عن التوازن والحكمة في التعاطي مع كل هذا التدهور الشامل الذي نعيشه بفعل اصرار ممثلي الكتل الضخمة على ثوابتهم وحقوقهم التاريخية التي لا يتجرأ الباطل على التقرب من اصغر تفاصيلها..! وفي مذكراته يكشف الحاكم المدني للعراق (بول بريمر) عن الحالة التي وحدت كل ممثلي العملية السياسية آنذاك في مجلس الحكم، حيث اتفق (الاخوة- الاعداء) على اختيار السقف الاعلى من الرواتب والامتيازات، ليضعوا بذلك اللبنة القاتلة لعملية اعادة بناء ذلك الوطن المنكوب، والذي نجا بمحض المصادفة والاساطيل العابرة للمحيطات والأقدار من ذلك العصر الزيتوني الذي لم تنج من هلوساته الاجرامية حتى الطيور المهاجرة الى الأهوار. هكذا شرعت أبواب العهد الجديد لنوع خاص من المواهب التي تجيد اقتفاء أثر اللقمة الدسمة والمناصب والمواقع التي تبيض ذهباً، لتنقلب المعادلة الى ضدها، حيث يطارد الجلاد الضحية ثانية ليرتفع عجاج الاشتباكات الخائبة على حساب حاضر ومستقبل شعوب وقبائل هذه المستوطنة القديمة التي عجزت عن انجاز مهمة اعادة بناء وطن ومواطنين أحرار.

قبل أكثر من ثلاثة عقود كنا نرسم في مخيلاتنا نحن الذين نجونا نهاية السبعينيات من قبضة الاجهزة القمعية للنظام المباد ووصلنا الى مقرات المعارضة في جبال كردستان، من اننا سنعود يوماً الى بغداد وبقية المدن بعد شوط مرير من النضال ضد ذلك النظام الدموي والاجرامي والذي سيحرق كل شيء كما وعد مراراً. ومثل ذلك الخراب سيحتاج الى نوع من المتصدين للشأن العام يتمتعون بشعور عال من المسؤولية والايثار والتضحية من أجل مصالح الوطن والناس، غير ان الأمور سارت على وفق العبارة القديمة (تقدرون وتضحك الأقدار) حيث تم الاطاحة بالنظام المباد من خلال القوات الأجنبية، ومنحت الأقدار الساخرة مقاليد الامور للمعارضة التي فشلت في كسب تعاطف لا من كان منتسباً لها في داخل الوطن وحسب بل في المنافي نفسها التي كانت تتواجد فيها المعارضة بشتى حوانيتها الآيديولوجية والجغرافية. لذلك لم يكن غريباً على مثل هذه القوى ان تحصد كل هذا الفشل السياسي والاقتصادي والقيمي، بعد أن وضعت مصالحها الفئوية الضيقة فوق مصالح الوطن والناس العليا، وحولت أسلاب ما تبقى من الوليمة الأزلية نهباً لشراهة مجاهديها ومناضليها الأشاوس، الذين اجترحوا المآثر المشهود لها خلال مدة لم تتجاوز العقد من الزمان. ان الطريق الى تقويم هذه الحالة الشاذة له بوابة واحدة لا شريك لها وهي: مسؤوليات بلا امتيازات.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة