محمد عاطف بريكي
كانت قائمة المرشحين لنيل جائزة نوبل للآداب العام 2024 زاخرة بأسماء وازنة في عالم الأدب والثقافة على غرار الأمريكي “دون ديليللو” والصينية “كان شيويه” والمجري “لازلوكراسناهور كاي” والأسترالي “جيرالد مورنان” والبريطاني “سلمان رشدي” والياباني “هاروكي موراكامي” والإسرائيلي “ديفيد جروسمان”. إلا أن الأكاديمية السويدية استقر اختيارها على أقصى نقطة في شرق القارة الآسيوية وبالضبط الجزء الجنوبي من شبه الجزيرة الكورية حيث برزت الروائية المتوجة بالجائزة لهذا العام هان كانغ كصوت متفرد ومجدد في الآدب الكوري الجنوبي.
وأوضحت الأكاديمية السويدية لنوبل في بيان التتويج أن هان كانغ التي تكتب الشعر والرواية باللغة الكورية، حصلت على الجائزة “لنثرها الشعري المُكثف الذي يواجه الصدمات التاريخية ويكشف هشاشة الحياة البشرية”.
وأشادت اللجنة المانحة بقلم هان كانغ “لإدراكها الفريد للارتباطات بين الروح والجسد والأحياء والأموات” وأضافت قائلة في بيان التتويج أن هان “أصبحت من خلال أسلوبها الشعري والتجريبي مُبتكرة في النثر المُعاصر.
للإشارة تُعد هان كانغ، أول امرأة كورية وأول أسيوية تنال الجائزة العالمية الأشهر على الإطلاق في شقها الأدبي بينما سبق وأن نالها مواطنها الرئيس الكوري الجنوبي السابق كيم داي جونغ الذي فاز بجائزة نوبل للسلام سنة 2000 كما تُعد المرأة الثامنة عشرة التي تحصل على هذه الجائزة الراقية في مسيرتها التي بدأت سنة 1910.
ولدت الروائية هان كانغ عام 1970 في مدينة غوانغجو التابعة لمقاطعة غيونغي جنوب كوريا الجنوبية و هي في سن التاسعة اضطرت أسرتها للتنقل للعيش في العاصمة سيول حيث انبجست قدراتها في الكتابة في شبيبتها الأولى أخذت تنشر محاولاتها الشعرية في مجلة “الأدب و المُجتمع” و هي في سن الثالثة و العشرون إلا أنها ما فتئت و غادرت الشعر الى عالم النثر من خلال نشرها مجموعة قصص قصيرة امتدت بعد ذلك الى الرواية حيث بدأ شلاّل الحكايات في الانهمار وهو ذاته الذي قادها الى نوبل للأدب و هي في سن 54 لكن قبل ذلك كان للروائية محطات مضيئة و إرهاصات استدلت بها الأكاديمية السويدية لمنحها أرقى جائزة في ورّاقة الأدب العالمي حيث سبق للكاتبة أن نالت جائزة مان بوكر الدولية للرواية وطبعت سنة 2016 في مسيرة الروائية أثرا مهما في مسيرتها الأدبية عن روايتها الموسومة “النباتية” الصادرة سنة 2007 و تناولت من خلالها الآثار العنيفة التي تواجهها بطلة الرواية التي ترفض الانصياع فجأة لمعايير تناول الطعام.
ففي إحدى الليالي تستيقظ يونغي وتتوجه مباشرة الى الثلاجة وتفرغها من كل ما تحتويه من اللحوم وقادها الى ذلك حلم راودها في المنام حيث أصبح لدى يونغي هدف في الحياة وهو أن تصبح نباتية وتتحد روحها مع كل ما هو أخضر من أشجار ونباتات. هذا التحول اعتبرته بطلة الرواية منعرج مهم في حياتها بل أصبح شغلها الشاغل الذي سوف تستمد منه معنى الحياة والقوة الزهرية المثيرة التي سوف تحطم قواعد المجتمع المنحدر ببطء نحو الجنون المطلق. وتم تحويل الرواية الى السينما حيث وصفها النقاد في ملحق التايمز الأدبي أنها “حكاية غريبة واثيرية، زادها روعة دقة نثرها ونضارته”.
وفي رواية “الكلاب عند غروب الشمس” وبعيدا عن التقاليد تقدم لنا هان كانغ وجها جديدا للأدب الكوري، مفاجئا ومثيرا. مع فصول هذه الرواية تسمح الكاتبة لنفسها أن تقدم شهادة عنيفة متجاوزة بذلك النظام الأبوي التقليدي والمنغلق على نفسه.
أما في رواية “العائـــــد” تستعين الروائية بالتاريخ المنسي لشبه الجزيرة الكورية حيث تعود بذاكرة الكوريين والقرّاء عموما الى شهر ماي سنة 1980 عندما استولى المجلس العسكري على السلطة، حينها اندلعت مظاهرات عارمة في شوارع العاصمة سيول نظمها التيار المعارض وامتدت المظاهرات الى مسقط رأس الكاتبة في جوانغجو التي بدأت في التعبئة العامة لمواجهة القمع بواسطة الحركات الطلابية والنقابية التي ثارت من أجل الديمقراطية. إن القمع الذي مارسه الجيش في تلك الفترة أوقع عدة ضحايا في صفوف المدنيين لا سيما الشباب منهم وفي خضم هذه المدينة المخضبة بالدماء يتجول صبي صغير أضاع رفاقه وفي دار نشر قصية تعمل كاتبة شابة على نشر نص بعيدا عن أعين الرقابة أما حاليا يتذكر الناجون وكل تلك الأرواح المعذبة تلك الفترة السوداء تلهج ألسنتهم بالسلام. في هذه الحبكة التاريخية المؤلمة بأسلوبها النقي والأثيري المشبّع بالبوذية التي تدين بها هان كانغ التي تضع نفسها ضد عودة أية إيديولوجية سلطوية معينة وفي نفس الوقت تشيد بشهداء الديمقراطية الكورية.
و في رواية “برحيلك سوف ترتفع الريح” تعرفنا هان كانغ عن ماهية الحد الفاصل بين الحقيقة و الأكاذيب و بين الحاضر و الذكريات المتصادمة في اللحظة التي تموت فيها صديقتها المُفضلة و هي رسامة شابة في حادث سيارة حيث تواجه بطلة الرواية “جونغ هي” ناقدا فنيا يدعى “جيونج” يدعي أن تلك الرسامة إنما انتحرت في الواقع، هذه الفرضية أدخلت بطلة الرواية في دوامة حول حقيقة وفاة صديقتها و قررت أن تحقق هي شخصيا في سبب وفاتها لتكتشف في الأخير مدى هشاشة صديقتها و تصدم بالمعاناة التي كانت تعيشها قبل الوفاة.
تأخذنا الروائية عبر هذا البحث في أغوار النفس البشرية في شوارع سيول ذات شتاء كوري مثلج ضمن حميمية البيئة الفنية لتخترق أعماق القارئ وتستقصي بلمسات حانية مجتمعا قريبا لكن في الوقت ذاته بعيدا في تناقضاته.
وفي رواية “دروس يونانية” التي وصفها النقاد برواية النعمة المُعاد اكتشافها نجد في قلب النص امرأة ورجل هما القلب النابض للرواية نكون في مواجهة امرأة فقدت صوتها ورجل بالكاد يرى. ورغما عنا تضعنا هان أمام جراح هاتين الشخصيتين المعزولتين عن العالم. لكن بسبب حادث ما أصبحتا قريبتان من بعضهما أكثر من كل وقت مضى وببطء أعادا اكتشاف الرغبة في التواصل مع بعضهما البعض حيث تتمظهر الرواية في عباءة قصيدة رائعة تقودنا لمعرفة طريقة إعادة بناء الكائنات من الصفر.
وأثناء إقامتها بالخارج كتبت هان كانغ بضع كلمات على قطعة ورق وكلها مرتبطة باللون الأبيض، بياض بطانية أطفال، بياض الملح والثلج، بياض القمر أو بياض زهرة المانغوليا ومن خلال كل كلمة كتبتها كانت تتقدم بذاكرتها وفي تاريخها لتطلق عليه في الأخير ” الكتاب الأبيض”
هكذا كانت هان تتقدم على سطح الزمن الحاد على حافة منحدر شفاف حيث تضع قدما على شفير الهاوية الخطرة للحياة بينما تضع القدم الأخرى في الفراغ ذلك لا يعني أننا شجعان إذ ليس لدينا خيار آخر وهكذا تُشعرنا الروائية بالتهديد الوجودي لكينونتنا، هكذا تغامرنا هان في نص لم تكتبه بعد وفي زمن لم تختبره بعد.
تُعتبر رواية ” أبيض” رحلة عبر مناظر طبيعية من الثلوج والنعومة تقودنا نحو المشاعر الأكثر حميمية للمرأة تجاه نفسها.
و تطل رواية ” وداعات مستحيلة” مثل حلم شتوي طويل تأخذنا الكاتبة من خلالها في رحلة تاريخية مؤلمة لكوريا الجنوبية المعاصرة بطلتها صديقتان، جيونغها و إنسون حيث اضطرت هذه الأخيرة أن تستعين بصديقها ليوصلها الى بيتها لكي تنقذ الببغاء الأبيض الذي تركته مرغمة في بيتها على جزيرة جيجو بعد تعرضها لإصابة أدت الى قطع إصبعين من يدها عندما كانت تقطع الخشب و هو ما دفع جيونغها الى ركوب أول طائرة الى جيجو في مهمة إنقاذ الحيوان لكن لسوء الحظ ضربت عاصفة ثلجية الجزيرة وكان عليها أن تصل إلى منزل صديقتها إنسون بأي ثمن و أكثر ما صعب من مهمتها الرياح الثلجية العاتية. وبحلول الليل أصبحت جيونغها تنآى بنفسها عن الموت المحقق لكنها لم تكن تعلم أن كابوسا أسود ينتظرها في منزل صديقتها إذ تم تجميع تلافيف القصة من مئات الوثائق المؤرشفة التي وثقت أسوأ المذابح التي عرفتها كوريا إذ قتل 30 الفا مدني بين شهر نوفمبر 1948 وأوائل عام 1949 فقط لأنهم شيوعيون.
تصنف الرواية كترنيمة حزينة للصداقة وتأبين للخيال وقبل كل شيء إدانة قوية ضد النسيان وتشكل هذه الصفحات المضيئة أكثر من مجرد رواية فهي تسلط الضوء على ذاكرة مؤلمة كانت مدفونة طي النسيان منذ عقود لتخرجها هان كانغ الى كتذكار يُعلق على صدر كل كوري جنوبي.
قال السكرتير الدائم للأكاديمية السويدية ماتس مالم، خلال حفل تتويج الروائية بالجائزة القيمة: إن الكاتبة “لم تكن مستعدة فعلا للفوز بالجائزة. وأضاف: “تتمتع هان بوعي فريد حول الروابط بين الجسد والروح، وبين الأحياء والأموات، وتتميز بأسلوبها الشعري والتجريبي الذي جعلها رائدة في النثر المعاصر”.