زهراء بدر الطائي
هي كثيرة الأغراض الشعرية التي تناولها « الصالحي» في شعره، تقفيا بغيره من الشعراء، تناول: الوصف، الغزل، الشكوى، العتاب، الثناء، الهجاء.. إلخ. ولم يكن شغوفاً في ديوانه ( خيول الخوف) بموضوع الأسرة والرعاية الأبوية إلا بقصيدته « سبيعني إليك» ولكنّه يتأسى بمسيرته الحياتية، بقول الشاعر حطان بن المُعلّى : إنّما أولادنا بيننــــــــــــــــا أكبادنا تمشي على الأرض(ii)
لوهبّتِ الرّيح على بعضهم لامتنعت عيني من الغمضِ
وكان مُحقّا ، لما كان عليه من الهمّ ، ما يكفي للإعراض عن الولد والتلد، والانصراف الى الكتابة عن الوطن وما عانى من موجات الاحتلال، وكأنّه نذر روحه دفاعا عن الوطن، إذ يقول: ولديك من البلوى (iii)
ما يكفي لغدٍ أفضل
الآباء في تربية أبنائهم يتحملون ما لا يدركه التعبير، ويعجز اللسان عن وصف حالهم ، والأمل يحدو ( الأب ، الأم) وهما ينتظران باباً سيفتح لتدخُل عزائم ابنهما بتحقيق ما لم يتمكنا من تحقيقه في طريق النجاح، فيضيف لِبنةً جديدة، لما قدّما في صرح زوجيتها العتيد منذ عقود – قلت أو زادت – من الزمن، بل تتسع آمالهم في أن يحقق ابنهما ما لم يتمكنا من تحقيقه، وأن يتدرج في مراقي العلم ليبني مستقبلا تقرُّ به الأعين. ومطلبهما منه، في قادم أيامهما، أنْ يكونَ فيهما برٌّ، وحنين.. ما يدعوانه أن يكون مُتّكئا لهما، وحائطاً يواجهان به مِحن الزمان ومصائب الدهر، بعدما تهجم شيخوختهما، وتخور قواهما، ويتوقّف الدم عن انتظام جريانه، مُنذراً بخوار قوتهما، ولذلك يسعيان إلى تربيته ، بما وسع رزقهما على بسط يدهما في المأكل والمشرب والدراسة دون فضل أو مِنّة: . يهطلُ لؤلؤ عينيه على كتفي
ليؤرقني ويُبلل صحراء غروبي
ويقود خطاي الى مدن غرقى
بمواجع أيامي وشحوبي
اجهش من فائض حزني
وفداحة أخطائي وذنوبي
اتنفس عطر ملامحه
فيسيل الصوت خفيضا
يبدأ قصيدته بسرد شعري تقنيته الزمنية، استرجاع داخلي لحكاية مولود اسمه «هاشم»، في سنيِّه الأُوَل، يحبو ، تهدده يدٌ حانية، تمسح دموعه، يحمله على صدره عندما تزاد نوبات تضايقه من مرض أو جوع، أو فورة غضب ، يقرّبه إلى قلبه، إلى حنايا صدره ، ليشعره بالأمان، ودفء الأبوّة، لشدةِ ما هو فيه، ومع ذلك لم يسكت غضبه، فتفيض عيناه دمعاً كثيراً وغزيراً، وصَفَه بالهطول (يهطل) بين أحضانه، وفِعُلية الحدث تشي بأنّها عين سكوب كغيمة حائرة، تهطل بدمع لؤلؤي على صدر يحمل قلبا أتعبته السنون، عيون هطلت بدمعها على صحراء روحه، فنشز لحمه وعروقٌه ، بعدما وضعته أمه ذكراً ((وليس الذكر كالأنثى)) وأمِنت نعماؤه بالرّواء بعد الجفاف. ليؤرقني ويبلل صحراء غروبي
ويقود خطاي الى مدن غرقى
بمواجع أيامي وشحوبي
هذا المشهد الآني يحرك مشاعر الأب ويثير الشجن، وكأنّ في مشيمته ،وُلدت عاهة ما ، جعلت معاناته النفسية تلازمه منذ طفولته، و يُخيّلُ لي- ما يضمره النص- أنّ هذا الجانب النفسي للأب يشعر متلقية، أنّ الطفل سيعيش على هامش الحياة في بعضٍ من جوانبها، يلاحقه غضب الآلهة أينما حلّ وارتحل، وهذه نبوءة داكنة شوهاء، كُتبت على بعض امهاتنا في عراق (بلد القهرين) كما يقول الصالحي – بدلا – من( بلد النهرين) في قصيدة « ياويلي علينا»(iv): من أين يفيض النبعُ الدّمويُّ
ولماذا ظلت أرض بلاد القهرين
مزرعة مثمرة … وتجوع.
لا أحد يدركُ كنّهً مراثيها.
وأغانيها والزمن المفجوع..
فأمواج الغربة ، والسَّفر النّفسي -لا الجسدي- يلازم شاعرنا لما هو فيه ، يهمس في أذنيه يحمل في سفَرهِ هذا، تقلبات الحياة، وسوء طالعه ، تشاركه ذاته الغرور المخادعة ، مما تجعله يفقد توازنه فتنقض عليه فجأةً، فتنقله الى عالمها المجهول المخاتل بستائرها السود، فيتيهُ مع ذاته الصحراوية في مدن غرقى بالأحزان « ويقود خطاي الى مدن غرقى» ، فيبقى جسدا تسمَّر مع أحزانه شاحباً، لا حراك فيه، في عالمه الغيبي يسرح مع افكاره ، تنتابه نوبات من الألم تعتصر أنفاسه ، ثمّ يعود من سفرته في اللاوعي، ليجد أنَّ أيامه تفتح أوراقا جديدة من الحزن والمرارة، فالحال لم تتغير، وتحت هذا الرّكام من الانكسار النفسي يستلُّ صوتا ضعيفا « فيسيل الصوت خفيضا « يشعرنا بأنّه حيّ يجرر جانبا من حياته . استحضار هذه الصورة الطفولية ليس أمراً اعتباطياً لــ «هاشم «، بل تم عبر مقصدية لجاً إليها الشاعر تفريغاً لمخزوناته العاطفية ،واستذكارا لتجربته الإنسانية التي عاشها منذ زمن ليس بالبعيد وهو يكابد شظف الحياة في ظروف استثنائية مرت على بلد مثل العراق، وأن يسعى لمعالجة حالته المرضية ، التي لم تجد طريقاً للشفاء ، فقد بقيت تلح على عقله الباطن لتخرج في إبداعاته صوراً وقصائد لتعيد التوازن والسكون النفسي لذاته ،ويشعر أنّه قام بشيء اتجاه مسألة حياتية كانت تؤرقه منذ سنين ، وكان يتمنى ألاّ تقع لنفسه، أو يستطيع أن يتجاوزها بما أوتي من قدرة. والله أحبّك يا أبتي
من لي غيرك
لو ضلت قدماك دروبي
وانهتكت أستار عيوبي
يوخزني دمعك
يا نبض القلب ويأخذني
صوب مباهج ذاكرتي
وحماقات جنوني وحروبي
فأحلّق منتشيا بلذائذ أحلامي
ومواسم أفراحي ورذاذ طيوبي
ويكبر «هاشم» ويُصبح ابن سنتين .. ثلاث.. خمس …. تسع …عشر… خمس عشرة سنة….. ومع هذا، لم يُفتقد الأملُ به، ويعرف الأب أنّ شعوراً كهذا قاسٍ وسراب يُخيّل للعطاشى ماء، ويتمنى أن تعود طفولته الجميلة، وتحيل صحراء روحه إلى حقل أخضر، لينسى حاضر أيامه، لكنّ الزمن لا تُطوى عقاربه.. وما يُدمِي قلبَه في زمنه هذا، أن يصحوَ من نوم ليلته منتظراً بلهفة قدوم ليل جديد، ولكنّ الليالي بها صمم لا تنتهي إلا بِعدِّ أيامٍ وتواريخِ سنين…. ، فلا طارق عند البابِ يحمل بشارة الخلاص ، ولا وجع يتبدد بمسحة يدٍ عند حكيم. فيدرك حياةً كهذه سراباً، وتقادمَ أعمارٍ، وتكاثرَ هموم وأحزان. فيزداد الأب اقترابا بمحبته إليه « والله أحبّك يا أبتي، من لي غيرك» ويجعل منها نبض قلبه وسريان دمه، ولولا المحبة ، لم يُحلّق منتشياً بأحلامه، فهو عطر جسده، واحتفاءٌ بمواسم أفراحه. قلْ لي يا كَبِدي
مازلتَ تُحبُّ الشيكولاتا وعصافير الحب
وتخاف العتمة ياولدي وأناشيد الحرب
هل مازلت تُغني ما بين الصُّحب
« نوبة شمالي الهوى
ونوبة الهوى جنوبي
يندار ويه الهوى
كلبك يا محبوبي
في هذا المقطع يستخدم اسلوب السرد الدائري، ليعود به الى بداية دائرة القص ،وهي طفولتُه» يُراد به أنّ الأحداث تبدأ من نقطة ما، ثم تعود في النّهاية إلى النّقطة نفسِها التي بدأت منها، فإنّ المتعارف عليه، أنّ التتابع الزمني لوقوع الإحداث من أبرز معالم المحاولات الأولى في بناء القصة، ولكنَّ القصة المعاصرة ألغت ذلك التتابع لصالح مبدأ الاختيار الواعي، والمقصود لِما هو دال على جوهر الهدف من الأحداث(v).
الهوامش:
(i) شكر حاجم ، ديوان خيول الخوف، سبعيني إليك، ص38.
(ii): أبو تمام ، حبيب بن أوس الطائي «باب الحماسة»، ديوان أبي تمام، تح :أحمد حسن بسج ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، لبنان،ط1، 1998، ص53.
(3) سطران مقتبسان من قصيدة « ماذا تفعل» من ديوان «خيول الخوف» ، ص 16.
(4) ديوان خيول الخوف، قصيدة « ياويلي علينا» ، ص 104.
(5) ينظر: د. شجاع العاني، البناء الفني في الرواية العربية في العراق، بناء السرد ، دار الشؤون الثقافيةبغداد، ج1 ،1994، ص43
(6) صاحب هذه الأغنية الشاعر «جودت التميمي» وقد ذاع صيتها في ثمانينات القرن الماضي ، شبكة الأنترنت، موقع الناس.
