كان الفتى حديث عهد بالعاصمة ، مأخوذاً بما يسمع عن منتدياتها ونواديها الأدبية ، وكيف يلتقي القوم هناك مصغين الى الشعر والمحاضرات الثقافية ، لكنه ظل حبيس داره ومقهى ( عارف آغا) في محلة الحيدرخانه حيث يلتقي الصفوة من أصدقائه وهم يتحاورون في كل جديد من أمور الادب ، ويستمعون من دون غضب الى الرأي والملاحظة والنقد ..
إنه العقد الستيني من القرن الماضي ، وانهم رفاق القلم والمقهى – رحم الله امواتهم واحياءهم – يحضر الى الذاكرة منهم حاتم الصگر وخالد علي مصطفى وكاظم الحجاج وعادل عبد الجبار وعبد الرزاق المطلبي وشاكر السماوي وصباح إسماعيل ورافع المفتي وصبيح الشحاذ وعبد الأمير الحصيري وعبد المطلب النحوي ونجاح البلام والدكتور كمال نشأت وعزيز وجمعة وهوبي وحميد والاسماء الغائبة اكثر من الحاضرة ..
قرأ الفتى واصغى الى أصدقاء المقهى كثيراً – واغلبهم بمنزلة الاستاذية بالنسبة له – ولكن شوقه الى تلك النوادي التي ظل يسمع عنها ما زال يسكن رأسه… وهكذا توصل الى قرار – وان جاء متأخراً – يقضي بارتياد تلك الأماكن التي سحرت روحه مع ما في ذلك القرار من تردد مبعثه حياء موروث ، وخوف من حضارة المدينة !!
دخل الفتى قاعة النادي وجلس مع الجالسين يستمع الى قراءة شعرية يوماً ، والى قراءة نقدية يوماً ، والى تجربة ذاتية يوماً والى والى ، وبعد كل جلسة او قراءة او استضافة يتخذ له مكاناً عند منضدة من المناضد فيزداد عجباً ودهشة ، ان هؤلاء القوم – كان يقول في قرارته – يلتقون لقاء الاحبة بالأحضان ومعسول الكلام ، ثم ينفضون انفضاض الخصوم والاعداء ، منصرفين الى مناضدهم جماعة جماعة وحلقة حلقة ، ساخرين من كل شيء لاعنين الشاعر والامسية والمناقش والحاضر والغائب ، حتى اذا دب دبيب السمر في الراس ، انستهم نشوة السهرة نشوة الثقافة ، وانتصرت في حلقاتهم الخاصة لغة الهمز واللمز على لغة المنطق والعقل ، و .. ويهرب الفتى من تلك النوادي وفي نفسه حنين الى المقهى وعشاق الادب ، غير ان حضارة الملابس والاحذية والمحال التجارية ابتلعت المقهى ، والجمع من صحبه تفرقت بهم السبل ، ولم تبق من ايامهم الا ماتبقى لخولة من اطلال تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد !!