الرؤية الفنية المركبة في “طيور مهاجرة”

الرؤية الفنية المركبة في “طيور مهاجرة”

يوسف عبود جويعد

تضعنا رواية (طيور مهاجرة) للروائي حكيم جمعة البنا، في أمور فنية، تخص فن صناعة الرواية، وهي فرصة طيبة أن نوضحها للقارئ، ألا وهي السارد الوحيد، وبطل النص السردي الروائي، الذي سنتابع من خلاله مجريات العملية السردية، فهو أشبه بعين الكاميرا التي نرى من خلالها ما يحدث داخل متن النص، إلا أن الأمر الذي نود توضيحه هنا، هو العملية التركيبية الفنية التي توضحت في هذا النص، من خلال قراءتي لهذا النص، وهو أمر أو جانب مهم، يحتاج أن يظهر في تحليلنا النقدي، ويتعلق بعملية البناء الفني لهذا النص، إذ  إن السارد الوحيد الذي يقود العملية السردية، يهيئ نفسه لرحلة مجهولة لا يعرف عن تفاصيلها أي شيء، كونه ينوي الهجرة إلى المانية الشرقية، بطريقة شرعية خالية من المتاعب، والمغامرات التي مررنا عليها في تحليلات نقدية لنصوص سردية روائية سابقة، مثل الهجرة عن طريق المهرب، الذي يضعهم في زوارق بلاستيكية وسط بحر هائج، أو المواجهات مع خفر السواحل، أو المطاردات التي يتعرض لها المهاجر، فالأمر اللافت للانتباه هنا، أن وسيم بطل هذا النص السردي، لم يجرب السفر بطائرة خارج البلاد، ولا يعلم أي تفاصيل تساعده في هذه المهمة، وكأنه راحل الى مجهول يصعب عليه سرد تفاصيل مسبقاً، وبهذا يكون السارد قارئاً أولا لهذا النص، ويكون القارئ الاعتيادي القارئ الثاني، وسيتفاعل مع السارد ويرى ما يراه، ويفرح معه، ويحزن معه، ويُدهش معه، لأن السارد سوف ينقل لنا هذه الرحلة خطوة بخطوة، وسنتابع ذلك بذات النسق، وتكون عملية البناء وفق تلك المشاهدات، دون أن نعلم مسبقاً ما سوف يحصل، لأن السارد نفسه، لا يعرف شيئاً عن رحلته، وهكذا فإن عملية البناء الفني، جاءت بالطريقة الصحيحة لحركة أحداث تسرد بشكل متصاعد دون توقع، وهكذا شددنا الرحال مع وسيم الذي قرر أن يغادر البلاد، لإكمال دراسته في بلاد الغرب:

(قررت السفر دون تردد ، وبعد مراجعتي للسفارة اللبنانية استطعت الحصول على فيزا الى لبنان والتي لي فيها احد أقربائي والذي كان بانتظاري لتكون محطة الانطلاق الى حياة جديدة ومنها الى حيث أبتغي.) ص 14 .

ومن خلال مكوثه في بيروت، نتعرف على صديقه وكرم الضيافة الذي حظي به، وبعد اسبوع يغادر الى مطار بيروت الدولي حيث كانت وجهته إلى برلين، وبما أنه وصل قبل موعد رحلته بساعة ونصف بعد أن انهى اجراءات السفر، قصد الكافتيريا ليتناول قدحاً من القهوة، وفي الكافتيريا تحدث بوادر أحداث سترافقنا في رحلتنا مع هذا النص السردي، حيث تقف الى جانبه فتاة في العشرين من عمرها أو اقل قليلاً وهي تناقش صاحب الكافتيريا، كانت قد أعطته ورقة نقدية فئة مئة دولار فاعتذر لها لعدم وجود مبالغ صغيرة لإرجاع باقي الحساب، وهنا يتدخل وسيم فيدفع حساب تلك الفتاة، ويتوجه الى الطائرة، إلا أن الصدفة الجميلة أن الفتاة تحمل رقم مقعد واحد واربعين بينما وسيم يحمل الرقم اثنين واربعين، فتجلس ملاصقة له، فتنشأ علاقة حميمة وقصة حب بينهما سنعيش تفاصيلها، من خلال السارد الذي ينقل لنا ما يراه، دون أن يعرف ما يحدث بعد ذلك، وهو أمر مشوق يدفع بالقارئ الى متابعة الاحداث للوقوف على مجرياتها، وتكبر وتترعرع تلك العلاقة من خلال هذه الرحلة لانبهار وسيم بجمال شذى الذي عرفنا اسمها من خلال عملية التعارف التي تمت بينهما، ونعرف تفاصيل كبيرة عن حياتها، حيث يتضح أنها لبنانية وحصلت هي وأسرتها على الجنسية الالمانية، ألا إنها فقدت والديها إثر سقوط طائرة تعود للشركة التي يعملان بها:

(كم كنت كئيباً قبل أن أصعد إلى الطائرة لفراقي ولشوقي لأهلي أصدقائي اخواني احبتي ومدينتي الجميلة التي ما تركتها يوما ما.) ص 45

وهكذا يتابع القارئ حركة الاحداث والمسيرة السردية، خطوة بخطوة، دون أن يتفاجأ بما يعكر صفو هذه المتابعة والسبب في ذلك أن السارد هو مهاجر الى رحلة مجهولة لا يعرف عنها شيئاً، وهو نوع من البناء السردي الذي ينتمي الى عملية صناعة الرواية، فالسارد ينقل لنا ما يراه، ونحن نتابع ذلك مع انتظارنا لما سوف يحدث لاحقاُ، وهكذا نجد أن تلك العلاقة ازدادت بشكل لافت للنظر داخل متن الطائرة، فقد أحبت شذى وسيم وطغى هذا الاحساس على كيانها، وكذلك بادرها وسيم المشاعر ذاتها حتى انهما تبادلا القبل أمام مرأى ركاب الطائرة، الذين ظنوا انهما عروسين فباركوا لهما ذلك وقدمت لهما احدى السيدات وردة حمراء لمصادفة هذا اليوم هو عيد الحب، بينما انبرى رجل عجوز ليبارك لهما ايضاً، وكذلك فعل احد اصحاب الفنادق في برلين ودعاهما لقضاء ثلاث ليال مجاناً، وتحدث المفاجأة داخل الطائرة، إذ أن عطب حدث في اطارات الطائرة ولا بد لهم بالنزول في اقرب مطار، وبعد هرج ومرج وخوف، استطاع الروائي نقله بتفاصيل شيقة، منها سقوط السيد العجوز وشعوره بضيق تنفس، وبما أن وسيم قد درس الطب وملم فيه، استطاع اسعافه حتى نزول الطائرة، وهناك جاءت سيارة الاسعاف واقلته الى المشفى الا انه فارق الحياة، وهكذا تمضي الاحداث التي نتابعها من خلال عين الكاميرا بطل النص وسيم، ولتكون شذى طرفاً مهماً في مساعدة وسيم لإكمال دراسته، وبعد مرور عام ونصف تحدث المفاجأة:

(توفيت صديقتي شذى بعد عام ونصف من زواجنا وهي حامل في شهرها السابع في حادث سير وهي في طريقها الى العمل) ص 116

وهكذا تمر الاحداث بأسلوبها الفني الذي يعتمد على العملية السردية المركبة، في أن ينقل لنا السارد ما يراه، دون أن يتوقع ما يحدث بعد ذلك، وهي عملية فنية تنم عن وعي وقدرة على مواصلة الروائي حكيم جمعة البنا، لكتابة نصوص سردية فيها من الجهد الفني ما يجعلها متجددة.

………………

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة