تجريبية القص القصير جدا في مجموعة «صخرة عربيف»

عبد علي حسن

لم يتوقف المنجز السردي القاص والروائي حنون مجيد عند حدود الأسس التي قام عليها السرد القصصي وخاصة في منجزه القص القصير جدا الذي توزّعَ على اكثر من مجموعة قصصية ، بل اتجه صوب حياكة اسلوبية ذات منحىً تجريبياً تمثّلَ وفق مستويين الأول شكلي والثاني مضموني ، ليحقق المعادلة الصعبة في كتابة النص ، إذ أدرك القاص حنون مجيد أنّ قوام النص وتفعيل تأثيره يتوقف على تحقيق المضمون الجديد الذي يتّسق والشكل الجديد المناسب له ، ولعلّ ابرز ظاهرة اسلوبية توزعت وامتدت على مساحات واسعة من قصصه القصيرة جدا ، هي ظاهرة التناص التي وجدنا فيها نزوعا إلى تخليق المعرفة المشتركة والمتواصلة بين المتوارث الجمعي على صعيد التراث العربي والعالمي الإنساني على حد سواء ، وبذلك خروجٌ للنص من منطقة الاتكاء على النص المُتناص معه الى تفعيل الأثر التواصلي للمعرفة الإنسانية انطلاقا من المحلي ، فهو _ القاص _ لا تنقصه القدرة على بناء الحكاية ولا القدرة على تخييل حكايةٍ ذات امتداد مضموني ومعرفي في الذات القارئة ، لتجد كل قصصه متمثلة لهذه المعرفة على نحو فني مؤثر يستنفر كل إمكانات القص القصير جدا ليوجز ويكثف ومهتماً بشرعية المفارقة وفق تجريبية تتجاوز فعلها كغاية إلى تجريبية عدّها وسيلة لتجديد الخطاب المضمر في هذا الشكل السردي الصعب ، وصولا إلى إنتاج نصٍ جديد في مكوناته البنائية والمضمونية ، وفي مجموعته الجديدة ( صخرة عربيف) الصادرة عن اتحاد الادباء والكتاب العراقيين يؤكد المنحىٰ التناصي الذي أشرنا إليه آنفا ، وبدءاً من العنوان الذي يحيل الىٰ الأسطورة
الاغريقية الخالدة (صخرة سيزيف) الرامزة الى العذاب الإنساني الذي لن يتوقف ، وفي الإحالة هذه إشارة الى معاناة الفرد العربي وعذاباته التي يتعرض لها كل حين ، وما تلك الصخرة التي ابتلي الفرد العربي بها إلّا تلك الأنظمة التي لم تكن حياة الإنسان العربي إلّا سلسلةً من الأثمان الباهظة التي يدفعها الإنسان العربي ليبقى كرسي الأنظمة في ابهى صوره القاهرة والمستبدّة ، لذلك فإن اختيار عنوان أحد قصص المجموعة (صخرة عربيف) ليكون العنوان الشامل الذي تنضوي تحت دلالته قصص المجموعة إنما هو محاولة للولوج إلى العوالم الداخلية للشخصيات والأحداث التي خلقتها لتكون التوصيف المرموز لمعاناة الإنسان في هذا الزمن الصعب الذي يشهد تحديات وجودية خطيرة تمتدّ الى جميع مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الدينية ، وإزاء ذلك فإن النصوص القصصية التي تبدّت بها ظاهرة التناص إنما كانت تتجه صوب اتجاهين الاول هو ايجاد تداخل وتشارك بين النص المتناص معه ونص القاص لتخليق نص جديد يمتدُّ إلى اتجاهات متعددة ليس أقلّها تداخل الهمّ الإنساني المتواصل وتمثل التجارب الإنسانية الواقعية منها والأسطورية لإيجاد تماثل بين تجارب وواقع الإنسان في كل زمان ومكان كما في قصة ( صخرة عربيف) إذ تداخل نص القاص مع النص الاسطوري لينتج نصاً جديدا يوازي فيه معاناة سيزيف وفشله في كل مرة من وضع الصخرة على أعلى الجبل بمعاناة الإنسان العربي الذي فشل أكثر من مرّة في حمل صخرته إلى أعلى جبله ، وحين يئس من نجاحه آثر أن يستريح وينام قليلا ليستجمع قواه ثانية ليحاول رفع الصخرة مجدّداً، إلّا انه حين استيقظ وجد أن هنالك الكثير من الصخور التي لا قِبلَ له فيها برفعها ، فترك المحاولة ، ليبقى في منطقة فشله ومنسحباً إلى أحلامه في حياة سعيدة غير متحققة ، أما الاتجاه الثاني في تجريبية التناص في قصص المجموعة فهو تأويل النص القبلي /المتناص ، كما في قصة (منديل كلكامش) و( هلوكست اقدم) و(جياكوميتي) وسواها . أما الظاهرة الثانية اللافتة للنظر والملاحظة هي تجريبية البناء السردي لجميع قصص المجموعة ، إذ اتجهت النصوص صوب البناء السطري ، وكما هو معروف فإن هذا النظام هو المُتّبع في الشكل الشعري ، قصيدة التفعيلة/ القصيدة الحرة.
ترى مالذي دفعُ بالقاص حنون مجيد للخروج على واحدٍ من أسس كتابة النص السردي وهو نظام الفقرة النثرية ليكتب نصوصه وفق نظام التسطير؟ بعدّ السرد فن نثري؟ والإجابة على هذا السؤال سيتبدى عند تلقينا لنصوص المجموعة التي تمكنت من الدخول الى مناطق تعبيرية جديدة ومؤثرة على مستوى بناء الجملة والنص شكلاً ومضمونا ، واكتسبت أبعادا إنسانية ووطنية اتسمت بالشمولية والعمق الفكري ، ولاشكّ بأن الإجابة على هذا السؤال وغيره ،تتطلب الرجوع الى نصوص المجموعة وتحليل البعض منها كنماذج اجرائية ، لأن العدد الكبير للنصوص التي تجاوزت المائة وخمسون نصاً لا يسمح بمقاربتها جميعا في هذا الحيز المحدود ، إلّا أن النماذج التي سنختارها كعينات يفي بغرضنا من توجيه الأسئلة والإجابة عنها ، ولعل اعتراضنا على خروج النصوص القصصية عن التشكّل الفقري إلى التشكل السطري هو لأننا إزاء شكلٍ تعدّ السردية فيه نظاماً يتعلق بأسس بنائية النص النثري ، إذ أنّ الخروج على بنائية السرد القصصي يستوجب مبدئياً التمسكَّ بأُسس بنائية النص القصصي الذي يعتمد الفقرة النثرية ، ترى مالذي دفع بالقاص حنون مجيد ترك الأُسَ الذي يبني عليه النص السردي؟ ، ولعل الرجوع الى نصوص المجموعة تحليلاً سيكشف النقاب عن الكثير من الالتباسات التي أثارتها أسئلتنا الآنفة الذكر ، إذ أننا وبعد قراءة قصص المجموعة سنخرجُ بملاحظتين أساسيتين ، الأولى هي أن أغلب قصص المجموعة قد حافظت على الأنساق الحكائية المكثفة والمختزلة الكثير من التفاصيل الفائضة عن جسد القصة القصيرة جدا ، وبذلك فقد اكتسبت هذه القصص الشروط الإجناسية لفن القص القصير جدا ، إذ وجدنا التتابع السردي الجمل المكونة للحدث ، أما الملاحظة الثانية فإن العدد الآخر من القصص قد لجأ إلى أسلوب التلميح دون التصريح معتمدة على ضخّ المزيد من التحوّل في نسق الجمل السردية تبعاً للمتن الحكائي الذي استوجب تخليق الشعرية على مستوى الجملة والمضمون وكذلك القوة في شعرية المفارقة التي حوّلت وظيفة النصوص المرجعية الى الشعرية بكسر توقع افقها وكذلك في كسر توقع أفق التلقي ، الأمر الذي دفع بالكاتب إلى نهج بنائية السطر دون الفقرة ، ليمنح المتلقي فرصة تلقي التحول الوظيفي للنص وفق تأمل يفضي إلى التأويل ، وسنجد كل ذلك في تحليلنا للنماذج المختارة ، وسنورد لكل من هاتين الملاحظين الآنفتي الذكر نماذج تمثلهما.

1.مُصلّي المطار
عندما بدأ المؤذن يدعو لصلاة الظهر في المطار
اغلق بائع المشروبات الكحولية في
السوق الحرة ،
حانوته، واتجه إلى ربه يصلي.
ثم إذ شعر أنه أقام تمام صلاته ،
وأن هناك قطارا من الناس في الانتظار،
اسرع إلى حانوته ،
وهو يشكر الله على الصحة والسلامة ،
وبركة السعي الحثيث في الرزق
الحلال …النص ص 78،،
ففي النص السالف حيازة كاملة التوصيلات الاجناسية لفن القص القصير جدا ، من زمان ومكان وحدث مكثف ومختزل وشخصية واحدة وسرد متواصل ، كما هناك انتقال وظيفي للنص من المرجعية إلى الشعرية احدث مفارقة كسرت توقع أفق المتلقي ، ويلاحظ أن الفواصل بين الجمل كانت الفارزة ، وهذا يعني أننا إزاء نص نثري متواصل التدفق ، ولم نجد ضرورة لتسطير الجُمل ، ومثل ذلك نقول حول النص التالي
(…شكورا
يقتطع قسما كبيرا من رغيفه ،
يفتته وينثره للطيور
. تلك عليه بشغف والنعمه بنهم،
تطير نحو أحزانها القريبة والبعيدة،
لا تلتفت إليه ، ولا تقول له شيئا،
تعرف أنه لا يريد منها جزاءً ،
ولا.. النص ص176)
فالنص السالف جعل العنوان الكلمة الأخيرة من النص ، وهي محاولة تجريبية ناجحة ، استفادت من الراكز في المخيال الجمعي لمقولة (لا نريد منكم جزاء ولا شكورا) ، وتقع أغلب قصص المجموعة في منطقة ملاحظتها السالفة ، فهي نصوص نثرية متتابعة الجمل السردية وحائزة على جميع مواصفات القص القصير جدا بنائيا ، فضلاً عن ثيماتها الملتقطة بعين قاص سبر أغوار النفس البشرية وتطلعاتها وهمومها.

  1. أما النصوص التي تمثل ملاحظات الثانية ، فقد اتجهت إلى التلميح دون التصريح ، ليتطلب الأمر من المتلقي أستدعاء مرجعياته ليسهم وعبر التأويل في إنتاج المغزى كما في النصين التاليين:
    في الوقت نفسه
    في الوقت الذي كان يفكر فيه في تفجير
    بناية ،
    سقطت من شباكٍ أعلى كرة طفل . …. النص ص212)
    بالجملة الأخيرة تستدعي تأويلاً ، وهو بمثابة المفارقة التي يتوصل إليها المتلقي ليكتشف سببية الفعل الاول ليحصل الفعل الثاني ، وإيجاد خيط الاتصال بين الفعلين.
    (انتظار على مائدة شاي
    اجتمعت العائلة مثلها منذ سنوات،
    على مائدة شاي العصر،
    يسودها مثلها منذ سنة وجود،
    يشربون شايهم دونما لذة،
    وشايهُ يبرد ولا يعود …النص ص144).
    ففي النص السالف تلميح إلى غياب من كان مع العائلة عند شرب شاي العصر ، وقد أسهم العنوان في إزالة الغموض بورود مفردة (انتظار).
    وإجمالاً فإننا نشير إلى أن السطر الشعري نظام خاص بفن الشعر لتحقيق الموسيقى الخارجية للنص وهو مالا يحتاجه النص النثري القائم على التتابع الجملي الذي يفترضه النص السردي.
    لقد تمكنت قصص مجموعة ( عربييف) القاص حنون مجيد من تقديم نماذجها في أبهى صورها وفاعليتها كما وتمكنت من تقديم نماذج تجريبية جديدة تحسب للقاص وهو يثبت عبر مجاميع القصة القصيرة جدا على أن تجربته من التجارب المهمة والمتقدمة في هذا الفن الصعب القصة القصيرة جدا.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة