إبراهيم رسول
أرادَ قارئٌ من القراء الذين يتوقونَ إلى اللامألوف أو الخارج عن النمط السائد المشهور أن يبحث عن كتابٍ يعيدُ إليه الشغف الفلسفي الذي يميل إليه في قراءاته الكثيرة, على حينٍ صدفة, يقرأ كتاباً لصديقةٍ له, فيقرأ الكتاب متأملاً عنوانه العميق المغزى الغريب المحتوى, يتأملُ ساعة أو بعضها في دلالة العنوان عسى أن يجد شفرة تفك له المضمون حتى يستطيع أن يقررَ أيمضي في القراءة أم يرميه في سلَّةِ أو رفوف المهملة! لكن حدث ما جعله يقتنع بأن يمضي في القراءة عسى أن يجد ضالته المنشودة, فراحَ يقرأ وإذا به يرى أن الكتاب عبارة عن مقالاتٍ نُشرت مسبقاً في الجريدة, ارتأت الكاتبة أن تلمَ شتات هذه الأفكار في سفرٍ واحدٍ لمحتواها الثمين أو اعتزازاً بالكم الفكري الذي فيه, وهذا ما حصل, إذ جمعت الكاتبة المقالات في هذا الكتاب ولكل مقالة عنوان فلسفي صوفي ثقافي كأنها تبحث عن العمق في الكتابة او خروجاً عن المألوف الذي يكتب به شريحة واسعة من كتاب هذا العصر, فراح يقرأ ويقرأ حتى قطع شوطاً كبيراً في القراءة لم يتوقف حتى أعياه الركض واللهاث وراء جمع هذه الأفكار حتى لا يتلاشى بريقها ونصوعها منه, هناك لاحظ أن الكتاب لا ينبغيَ له أن يُقرأ بقراءةٍ عابرةٍ أو بجلسةٍ واحدةٍ, فربما يعتري القارئ بعض الملل, إذ تذكر مقولةً للفيلسوف المغربي سعيد ناشيد في كتابه ( التداوي بالفلسفة ص41) حيث يقول: لا توجد حياة لا تشوبها فترات من الملل قد تطول أو قد تقصر, ولا توجد رواية لا تتخللها فقرات تبعث على الشعور بالملل وتتطلب الصبر على القراءة, ولا حديث لا تشوبه لحظات من الملل, وكل هذه الحالات تتطلب الصبر والاصغاء. لكنه لم يشعر بالملل من قراءته لهذا الكتاب بل شعر بأنَّ تزاحم الافكار صار يؤثر على تفكيره ودماغه, فعزمَ أن يستأنف القراءة لوقتٍ آخر يقضيه بعد فترة استجمام أدبي في قراءة ديوانٍ من الشعرِ أو قراءة قصةٍ تعيد لمخيلته أن تسترجعَ الخيال الذي يفرض نفسه فرضاً في حالاتٍ كثيرةٍ, وما هو إلا قليل حتى أخذ الكتاب مرةً أخرى ولكن هذه المرة كانت بجلسةٍ واحدةٍ لأن دماغه كان يلح عليه في مواصلة القراءة والنظر في هذه المقالات , لم يشعر إلا وقد أتم الكتاب وها هو يصل إلى صفحة الفهرست ليعيد قراءته للعناوين ويستعيد بذاكرته إلى الوراء ليختبر نفسه هل ما تزال تلك الأفكار عالقة في مخيلته أم تبخرت كما يتبخر الماء عند الغليان؟ لكنه فوجئ بأنَّ دماغه ما يزال محتفظاً بالكثير مما قرأ, بل إن في دماغه أسئلة كثيرة وكثيرة جداً لربما تفوق عدد صفحات ما قرأه في كتاب ( المقالات)! هي أسئلة تبحث عن قضايا فكرية وتساؤلاتٍ فلسفية, إذ الكتاب عبارة عن سياحةٍ معرفية بلغةٍ وثيمة فلسفية, راح يتساءل عن الاسلوب الغريب أو الجديد الذي لم يألفه في كثيرٍ من كتابات المقالات في هذا العصر الحديث والعصر الذي قبله, فراح يتساءل عن تلك العبارات الغامضة التي وردت بين دفتي الكتاب, فوجد أن الكاتبة تستندُ إلى مرجعياتٍ فلسفية عديدة, فإذ به يذهب ذات اليمين وذات اليسار بحثاً عن مصدرٍ معجميٍ فلسفيٍ يسهم في تفكيك المقالات, فوجد بعد بحثٍ طويل أن اهتدى إلى موسوعةٍ من ثلاثِ مجلداتٍ ضخمةٍ وهي عبارة عن تعريفٍ لمصطلحات الفلسفة وترجمة يسيرة للفلاسفة والموسوعة من تأليف د. عبد الرحمن بدوي.
العبث يكون بطلاً ( في إحدى عبارات المقالة الأولى) يا ترى كيف يكون العبث بطلاً في مسرحيةٍ يحضرها جمع غفير من الناس؟ يا ترى ما هذا العبث الذي تحاول الكاتبة أن تعطي له البطولة والهيمنة ليكون له وقعٌ في نفوس المتلقين؟ ما هي إلا قليل حتى تفسر الكاتبة بأن العبث هو الثبات, ربما يكون الثبات في اللاثبات واللااستقرار أو اللاركون أو اللااستسلام, فكلها تعطي معنىً قريباً لما يُراد له, إذ العبث هو المحاولة الدؤوبة التي لا تستكين إلى قناعةٍ عتيقةٍ راسخةٍ, العبث هو أن تحرك الأرض الآسنة التي سكن الماء فيها وركد حتى تحول من نعيمٍ وحياةٍ إلى سمومٍ ضارة تضر بالحياة, هذه العجائبية التي تنتهجها الكاتبة كأسلوبٍ جديدٍ لهيَ محاولة في مخاطبة العقول التي هيمنت الرجعية فيها كثيراً وصارت عبارة عن وعاء جامع لما تراكم من نفايات التراث العتيق البالي الذي وصل عبر سلسلةٍ من الأجيال يحافظون عليها, لأنهم يشعرون بالخيبة أمام تطور الحياة الجبار الذي يجري بصورةٍ أعيت من يحاول الجمع بين النقيضين, (العبث ليس اللامبالاة, وليس اليأس أو الكسل) هنا في هذا النص الكاتبة تزيح اللثام عن مقالتها وتفسر العبث بصورةٍ أقرب للواقعية المجردة التي لا لبس ولا تضليل فيها, عبثاً تحاول, فنلاحظ فعل ( تحاول) يشي بأن النص يتصف بديناميكية واضحة وانفتاح كبير مما يجعل النص حمال أوجهٍ عدة للتفسير والتأويل بعد عملية التفكيك وفك الترميز, كثيراً ما ورد في هذه ( المقالات) أفعال مضارعة أكثر منها ماضية أو مستقبلية, هذه إشارة لها مغزى وأي مغزى! إذ الكاتبة تعنى بالهم اليومي المعاش ولم تقف على الماضي بحسرة وربما لا تريد أن تعيش حالة التلاشي البعيد والنظر المضبب بضبابٍ كثيف معتم وهو ( المستقبل) فهي تقف في المنتصف لتكون حلقةٌ للوصل بين نقيضين يأبى أحدهما أن يتصل بالثاني, إذ كان للغةِ سلطان وهيمنة فلغة هذه ( المقالات) هي لغة غريبة البناء والتكوين إذ أنَّها حمالةُ طُرقٍ متعددة في بنائها التركيبي, فتارةً يكون النص نصاً أدبياً تغلب الموسيقى والايقاع عليه وطوراً يكون فكرياً فلسفياً جامداً لا يتحرك إلا ببطء وتثاقل, هاتان الميزتان جعلتا للنص قراء يختلفون في الحكم له أو عليه تبعاً لخلفياتهم القُرائية, هذا الاختلاف هو هديةٌ معطاة للجميع ليتباين الحكم على النص بآراءٍ مختلفةٍ ومتعددة, العبثُ هو العمل, وفي العمل يكمن التواصل نحو الغد الآتي بعد أن ينتهي الآن, هذه علاقةٌ وشيجةٌ بين معنيين متلاحقين, تقول في إحدى ( المقالات ص 87): كي يثق الإنسان بالآخر, عليه أن يثق بنفسه, وكي يثق بنفسه عليه أن يثق بالله ونِعَمِه, هي حلقة يتداخل في تحقيقها ثلاثة: الإنسان, الآخر, الله, فالثقة بالله ليست كسلاً. هذا النص يحمل دلالة رائعة إذ أنها توضح مفهوماً ساد كثيراً في الأوساط ( المستثقفة) بأن اللجوء إلى القوة الإيمانية هو كسل فكري وخيبة في تحقيق مستقبلٍ أفضلٍ, إنها تكسر ما يُشاع لتقول كلمتها الجديدة بأن هذا المفهوم الذي يُصفُ بأنَّه ( ضرباً من الطوباوية) لذلك في تريد إعادة نظر حقيقة حول مفاهيم تراكمت المغالطات حولها وعليها حتى ترسخت كأنها واقعية, الكاتبة تعبث كثيراً وتشاكس كثيراً ولها أدوات العبث والمشاكسة, إذ تلجأ إلى الفلسفة لتعبث أيما عبث ولكنه عبثٌ محبب إلى الفكر, وتلجأ إلى الأدب لتشاكس عبر تقنياتها الأدبية من ظهور وإضمار أو مباشرة بعيدة وذلك عبر استنادها على مرجعها الأدبي واللغوي .