محمد زكي ابراهيم
لم تخمد الحركة العلمية في مدن الشرق الإسلامي بعد أفول عصر الحضارة الإسلامية وسيطرة المغول والتركمان على العاصمة بغداد ، ولم ينطفئ وهجها بسرعة مثلما هو شائع. فقد استمرت الدراسة على ما كانت عليه. وظهرت حركات فكرية عديدة. وعلا نجم الكثير من العلماء والشعراء والمتصوفة، من أمثال جلال الدين الرومي، وسعدي وحافظ الشيرازيين، ونصير الدين الطوسي، وصفي الدين الحلي، والحسن بن المطهر الحلي، وابن نباتة، والبهاء زهير، وغيرهم.
بل أن الحياة العقلية شهدت في تلك الحقبة نمواً ملحوظاً. وسبب ذلك أن البلاد المشرقية لم تفقد مركزها التجاري والبحري، ولم تنحدر إلى الضعف والخمول. وكانت تجني من موقعها أرباحاً طائلة، عبر تبادل السلع بين الشرق والغرب. فكانت مواد مثل التوابل والأحجار الكريمة والكافور والسكر وخشب الصندل والعود والزجاج والخزف والسجاد والحرير والنسيج الموشى ترد من سومطرة وبورنيو وسيلان والهند والصين وإيران، عبر خليج العرب والبصرة. ثم تستبدل على أيدي التجار الإيطاليين في الموانئ السورية مثل انطاكيا وحيفا وفي الاسكندرية بمصر، بالمنسوجات الصوفية الخشنة والزرنيخ والكحل والزئبق والصفيح الأبيض والنحاس والرصاص والمرجان. لكن الميزان التجاري كان يميل لصالح التجار العرب، فيدفع الأوربيون الفرق بالذهب. حتى قيل أن رصيد أوربا كان مهدداً بالنفاد في حينه!
وحال دخول البرتغاليين منطقة الخليج، ودورانهم حول رأس الرجاء الصالح، وسيطرتهم على سواحل أفريقيا الشرقية وباب المندب، انقطعت هذه الموارد نهائياً. وعاشت المنطقة في فقر مدقع. ولم يعد بإمكانها أن تنتج أو تضيف شيئاً إلى رصيدها المعرفي.
إن دورة الزمن ربما تكون قد حانت الآن. وباتت الأحوال قريبة من العودة بعد نمو اقتصاد دول آسيا، وظهور الحاجة إلى طرق تجارة قصيرة. ولم يبق إلا أن تستعيد الموانئ العراقية والمجاورة قدراتها على استقبال وتصدير هذه البضائع من جديد ، وهو أمر مايزال محل شد وجذب حتى اليوم.
إن من العسير على شعب ما أن يبدع في جانب من الجوانب دون أن تكون لديه موارد مالية كافية، حتى لو كان يملك كفاءات، أو جامعات، أو مدارس. وحتى لو كانت حرية التعبير مصانة، ووسائل النشر مكفولة. ولنتذكر أن شخصاً مثل عمر الخيام، الرياضي والشاعر والفلكي النيسابوري، لم يكن قادراً على إنتاج ما أنتجه، دون موارد مالية كافية. فقد أوقف له الوزير نظام الملك جراية سنوية أغنته مشقة البحث عن الرزق، وجعلته يتفرغ لبحوثه التي منها التقويم الشمسي الهجري، المعمول به حتى الآن. فتأمين موارد مالية للمشتغلين بالثقافة سيحرر لديهم طاقاتهم الإبداعية الكامنة.
ربما يكون مثل هذا الجانب خافياً على الكثير من الأشخاص، الذين يطلقون الأحكام على تراجع النهضة الفكرية في البلاد العربية والمشرقية، هذه الأيام. ولو انتبهوا إليه لكان من اليسير على هذه البلاد أن تستعيد مكانتها العلمية، وتصبح من جديد، منارة إشعاع فكري عظيم في هذا العالم.