انتقام

آية ياسر

إنها تكره الرجال!..
تتلذذ بجعلهم يقعون في عشقها، ثم تحطم قلوبهم، تتفنن في إثارة إعجابهم بجمالها الفتان، وأنوثتها المتفجرة، ثم تولي ظهرها لهم، ولا تترك لهم سوى الحسرة والألم.
عندما كانت صغيرة أرسلها والداها إلى الريف لتعيش مع جديها، فكلاهما سافرا للعمل خارج البلاد.
كانت ابنة الثامنة حين جاء العيد الكبير في ذلك العام، ارتدت فستانها الجديد، وعقدت لها جدتها ضفيرتين ، ربطتهما بشريطتين حمراوين، ومضت فرحة برفقة أبناء عمومتها وأولاد الجيران في القرية ليتشاركوا اللعب.
أحبت كثيرًا لعبة الاختباء، كانت أفضل من يختبئ من بين أطفال القرية، ولا أحد يستطيع العثور عليها.
في ذلك اليوم، دخلت إلى حظيرة طيور أحد الجيران، لم تحسب أن أحدًا سيعثر عليها، لذا حبست أنفاسها واختبأت في صمت خلف كومة قش وهي تصغي إلى أصوات أقرانها في الخارج.
شعرت بالخوف يجمد أوصالها حين أحست بيد ضخمة تطبق على كتفها بقوة.
كان الظلام حالكًا في داخل الحظيرة، لم يبدد عتمته سوى بصيص النور في وقت الأصيل الذي تسلل عبر الباب الخشبي القديم، عندما التفتت إليه لم تتبين ملامحه جيدًا، لكنه كان ضخم الجثة ذا شارب كثيف.
اتهمها بأنها جاءت لسرقة الطيور، ولم تشفع لها عنده دموعها وتوسلاتها وأيمانها التي أقسمت بها، خافت من أن يضربها، أو يخبر عائلتها بأنها سارقة، لكن ما حدث كان أكبر من مخاوفها!
أمرها بأن تتجرد من ثيابها التحتية، وهددها بأن يقتلها إذا فتحت فمها، أخذ يتحسس بيديه الخشنتين موضع أنوثتها، والصبية ترتعش وتذرف دموعًا حارة وهي لا تدري ما الذي يبتغيه منها هذا الغريب المخيف؟
لكن باب الحظيرة فُتح فجأة على مصراعيه، ودلف عبره شيخ مسن، صاح بغضب: “ما الذي تفعله عندك يا “شعبان”؟”.. “يا ويلك أيها الخسيس الدنيء ماذا فعلت بالطفلة؟”.
لا تذكر جيدًا ما حدث بعد ذلك، لكنها لن تنسى ذلك الحرق في فخذها الذي سببته لها جدتها لتبقى ذكرى تلك الليلة المؤلمة تلاحقها، ولا تعرف لماذا اعتبرتها العائلة هي الجانية، وتعرضت للضرب والسب من أهل الدار جميعهم؟ ولماذا جردتها عمتها من ثيابها وقبضت على ساقيها بقسوة، وأخذت تحدق في ما رآه ذلك الغريب المخيف؟ ثم أمرتها بأن ترتدي ثيابها، وخرجت لتعلن لنساء الدار أن الفتاة “صاغ سليم” لم يمسسها أحد.
لم تعد تلعب خارج الدار منذ تلك الليلة المشؤومة، فجداها قالا لها إنها أمانة عندهما، وكادت تضيع من بين أيديهما، ولن يسمحا لها بأن تبتعد عن أعينهما حتى يعود أبواها من سفرهما.
ولم يكد يمضي عام حتى أصابتها الأيام بمصيبة أخرى، وكأن لعنة ما تطاردها كلما لعبت لعبة الاختباء!
حين عثرت عليها إحدى قريباتها مختبئة في دولاب خشبي برفقة أحد أبناء عمومتها، ثارت ثائرتها وصفعتها على وجهها، وجذبتها من جديلة شعرها نحو غرفة الجدة، وقالت لها: “قلت لكِ مسبقًا إن هذه البنت قد كبرت، وقد آن الأوان لما تعرفين”.
وما كادت أيام معدودات تمضي حتى ذُبحت أنوثتها، التي لم تتفتح بعد، بمشرط “الداية” المخضب بالدماء، وخرجت النسوة من غرفتها وتركنها لآلامها وأحزانها وشعور مقيت بالهوان جعلها تتمنى لو تنشق الأرض وتبتلعها.
أقسمت في ذلك اليوم أن تنتقم من الرجال، بقدر ما عرفت من الألم!

*عن ضفة ثالثة

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة