أوس حسن
قبل عدة سنوات كنت مولعا ً جدا ً بفكرة نهاية العالم، والكوارث التي ستصيب البشرية، لكن ليس على الطريقة التي تبشر بها الأديان، ولكن بما تضخه لي المخيلة من أحلام وصور في المنام واليقظة، وفي تلك الفترة تحديدا ً كانت تستهويني فكرة الكائنات الأكثر رقيا ً من الإنسان، وفقا لما جاء في نهج العقائد السرية، ورموز الحضارات المنسية، وما صاحب نشأتها وزوالها من غموض محير. وكنت على يقين روحي أن هناك جزءا كبيرا من تاريخ المعرفة البشرية مازال ضائعا ً أو مخبأ في مكان ما، وله حراس من طراز خاص على هذا الكوكب. لكن الأمر الأكثر حيرة وتعقيدا ً إني لم أكن أعتمد على إرث معرفي، أو نهج علمي للوصول إلى الحقيقة. بل كان يستهويني عالم المجانين والمرضى النفسيين، وما يتفوهون به من هذيانات وهلوسات، وحاولت أكثر من مرة تدوين أحلامي وأحلام أصدقائي، محاولا فك الرموز الحلمية، وبعض الهلوسات متتبعا ً طريقة عالم النفس السويسري كارل غوستاف يونغ
الذي كان يعتمد على رموز اللاوعي والصور الذهنية، وعلاقتها في حياة الإنسان البدائية والأساطير الأولى، إضافة لما تقدمه تلك الرموز والأحلام من استشراف للحقيقة والمستقبل البعيد. وبقيت تائها حينها في هذا العالم بعد أن جربت الاقتراب من السحر والتجارب الروحية الخطيرة، إلى أن أصيبت مخيلتي بعطب كبير، وتشوهت علاقتي مع العالم الخارجي، والواقع الذي كان يجلدني بقسوته وماديته المفرطة.
مرت فترة طويلة على هذه الأحداث، شفيت من كل هذه التشوهات، وعدت مهزوما ً إلى الواقع، وراضخاً لما تتطلبه مجريات الحياة من منطق وعقلانية صارمة.
في فترة الحجر الصحي من عام 2020 تواصلت معي على صفحة الفيس بوك شاعرة عشيرينية تقيم في إحدى دول أمريكا اللاتينية مع أخيها وأمها المطلقة، وقد اعترفت أنها مصابة بمرض نفسي لم يتم تشخيصه من قبل الأطباء، ولم ينفع معها الدواء، وأن هذا المرض أصابها فجأة عندما كانت في الثانية عشرة من عمرها، كانت تمتلك روحانية هائلة بحيث أنها تستطيع أن تعرف تاريخ حياتك، وبعض الأسرار، كما أنها يمكنها أن تصف شكل وملامح بعض الفلاسفة والأنبياء، وبعض أحداث التاريخ السرية، وكانت تكتب الشعر بطريقة غير مكتملة، نتيجة لبعض النوبات العصبية التي تهاجمها فجأة، ثم تضيف له بعض الرموز والأرقام. كنت أستمع لها طويلا ً وأحب عالمها وأصدقه من أعماقي، أحببت ضحكتها واحتدادها المفاجئ في الكلام، وهي أيضا ً ارتاحت لي ووثقت بي جدا، بدأت حالتها تتحسن نوعا ما. وبدأنا نتكلم بشكل شبه يومي تقريبا ً، حدثتني عن البوابات السرية للآلهة، وعن الكثير من الأساطير التي أشبعت مخيلتي الجائعة، وظلت تقول لي: عيناك تكذبان أيها الشاعر.
في ليلة ما انتظرتها ولم تأت، كذلك في الليلة الأخرى، والليالي التي تليها، طال الوقت، وطالت الليالي، وطال الانتظار، ولا أحد يطرق باب الليل، ثم عرفت أخيرا ً، إنهم احتجزوها في مستشفى للأمراض العصبية، ومنعوها من التواصل والزيارات، وكانوا يحقنوها الإبر المهدئة نتيجة لنوباتها العصبية المدمرة، لتذهب في غيبوبة طويلة الأمد ثم تصحو، وكأن شيئا ً لم يكن
وأنا في كل ليلة ما زلت أحلم بها.. تسقط من علو بناية شاهقة، ثم تحلق عاليا بجناحيين كبيرين
رأيت وجهها يتوارى بين الضباب، تلاشى الحلم، وتبعثرت الصور في الأعماق الخفية
وما زال صوتها العميق عالقا ً في رأسي:..” عيناك تكذبان أيها الشاعر”.