عبد الرضا الحميد… مغادرة عوالم الخوف والريبة في ( خيول المعنى

 محمود خيون

عبد الرضا الحميد عرفته منذ أكثر من أربعين عاما…كان وسيما..رفيع الخلق.. كاتبا يمتلك حبكة ودراية في ما يريد رسمه ووصفه… متمكن في البناء الروائي والقصصي.. كنت احسده لتلك القدرات في فك رموز الكثير من التعقيدات التي قد تكتنفها الحكاية التي بنيت على أساسها القصة أو الرواية التي يريد لها أن تنهض بعافية بعد أن تمر بمخاضاتها العسيرة…

وكان يحدثني أوقاتا عن تذمره وانزعاجه لشعوره بشيء من التشتت والخوض في منابع كثيرة ومسارات معقدة في ما يكتبه في تلك اللحظات.. لكنه يعود مبتسما ويصفني بأني فاتحة خير عليه لمسكه خيوط الرواية أو القصة.. و

لم يكن عبد الرضا الحميد يعلم أن الأقدار ستقذف به في بحر من الظلمات ويعيش في صراع مع أمواجه المتلاطمة حتى أنه راح يفكر بطرق أخرى يستطيع من خلالها الغور في أعماق أعماق ما يكتب.

وممال اشك فيه أنه يمتلك قدرات كبيرة وكنت أطلق عليه لفظ (غوغول) أو معطف غوغول الذي خرجت منه الرواية الروسية….وكان يذهب بخياله بعيدا حيث حكايات ألف ليلة وليلة أو حكايات السلاطين والبشوات وعصر المماليك… ولا يخفي شيئا حتى الصوت يدعه يخرج من حنجرته بطريقة عجيبة وكأنه يدلي باعترافات خطيرة يحفظها بذاكرة حادة..وهو في ذلك يعيد لنا ذات المشهد في ( اعترافات أرمل من الجنس الأبيض ) لهمبرت همبرت الذي تمزق نسيج قلبه من الحب والعشق والهوى.

يعيدنا عبد الرضا الحميد إلى تلك الأجواء المبهمة والشرسة ويصفها وصفا كما أراد لها هكذا ((رأيت كف رغيف ميت مدفونة تخرج للعراء وما أن أمسك الكلب بن الستين الف كلب بها وجرها حتى انزاح التراب عن رغيف مذبوح…)) ..وهنا تتصاعد النغمة الفجائعية بأوسع أوتارها في أن تلملم بقايا الرغيف المذبوح والمسفوح دمه من دون وجهة حق.. فيكمل ذلك النوح(( وإذ سحب الكلب أكثر أنبجس رغيف آخر ومازال الكلب يسحب وأرغفة مكفنة بأغطية ثقيلة تظهر من الحفرة ، رغيف مشروخ الرأس..رغيف مبتور الأذرع رغيف معضوض من الفودين)). …وبهذه الاستباحة والجرم المشهود يصف لنا عبد الرضا الحميد تلك الواقعة كما يصفها محام ماهر في قاعة المحكمة في مشهد مرعب ومخيف تتجلى فيه روح المغامرة والإثارة أو كما يسمونها( الاكشن ) … (( مع تضاؤل موسيقى الموت الآتي للقطة سريعة للأصابع المتوفزة على الزناد.. تتصاعد الموسيقى..تتوفز الموسيقى تتوفز الأصابع وعند ضربة موسيقية عنيفة تضغط السبابة على الزناد…)) ..وتتوالى المشاهد بنفس الحبكة والبناء الفني الرصين وبعبقرية الوصف وتطويع اللغة واستخدام المفردات العينية المترادفة(( الكاميرا تلاحق الرصاصة..الرصاصة تنطلق بسرعة فائقة…ثم للرصاصة المنطلقة دونما التفات أو إصغاء للتوسلات والتضرعات ))…بهذه الآلية المتلاحقة والسريعة يشدنا الكاتب عبد الرضا الحميد إلى أن نستمر في ملاحقة الحدث كما يشدنا لان نسمر طيات الذاكرة عند مشاهد أخرى أشد إثارة ورعبا…وكمخرج نادر تعالى صوته من خلف الكاميرات ليملأ أكبر مساحات العمل الفني إستطاع الكاتب أن يدخلنا وعلى حين غرة في دهاليز محكمة لا نريد مغادرتها قبل أن نعرف أغوارها ومفاوزها وما يريده هو نفسه الولوج في متاهاتها الكثيرة.. فهو يعيد لنا من ذاكرة الحرب والدمار الكثير وعسكرة الجيوش الصديقة و المعادية ((يضاء المسرح عن ساحة عرضات مركز تدريب عسكري.. صوت بوق عسكري.. يعقبه دخول أكثر من جندي مهرول وأمام عريف يأخذون أماكنهم في وضع الاصطفاف بعد ايعازات بالتهيؤ والاستعداد والاستراحة ثم الاستعداد والاستراحة يدخل ضابط بيده ملف )) …ثم يعكف)) الضابط: بعد أن أنهيتم التدريب الأساسي سنوزعكم الآن على أصناف الجيش وفقا للخطة ))..

بهذه الذاكرة الحية والنشطة ينقل لنا الكاتب هذا المشهد الدرامي من خشبة مسرح الحياة التي كان هو أحد أبطالها الحقيقيين والذين عاشوا أوار غمارها العاصف والمدوي والمرعب في أقسى لحظات الخوف من الموت المؤكد….

ومن البديهي أن اعترافات عبد الرضا الحميد وبهذا الكم الهائل من المتناقضات والشائعات التي تحرض على ارتكابه وقائع كثيرة تثبت إدانته بأنه في يوم ما تمرد على هذا الواقع وأراد أن يثور كالبركان ليحرق كل شيء من حوله لكن حنينه وحبه الكبير والشاسع لتلك البيوتات الطينية القديمة التي كانت تمثل لديه مبعثا للدفء والحنين والربوبية والأمان أوقفت ثورته تلك وأطفات جذوة الإنتقام داخل نفسه وروحه المعذبة…

ومن هذه التجربة الشخصية الموجعة يبرز حلم الكاتب في أن يكون واحدا من الذين أوفوا العهد لتلك الشمس التي ما فتئت تجر أذيالها عند كل مغيب لتغطي مساحات واسعة من حول تلك البيوتات التي كان وما يزال يعشقها….

تبقى (خيول المعنى ) واحدة من المرايا والرؤى التي تجسد مهارة الكاتب في انتزاع اللحظات التي يغادر فيها الإنسان دوامة الخوف الذي قد تحول إلى هيأة إنسان يمارس حياته الاعتيادية مع بقية البشر…. كما وصفها الناقد الدكتور باقر جاسم محمد(( إذا كان عجيب ألف ليلة وليلة، رواية الجن والخوارق فأن عجيب “خيول المعنى” ان الخوف فيها قد صار إنسانا يقوم ويقعد ويركب الحافلة ويتجول في الأماكن العامة ويثمل )).

أرى أن( خيول المعنى ) جاءت إضافة نوعية الى تلك المجموعة من الأعمال الأدبية والسردية الكبيرة على الرغم من اسباغ نعت (( مرائي )) عليها، وتعد(( جنسا أدبيا تتواشح فيه فنون الكتابة السردية والشعرية والمسرحية والسيمية))، وأنها تنضم بوحدة الأفكار والبناء الفني القصصي والمسرحي والروائي إلى رائعة ماركيز( مئة عام من العزلة ) وعلي خيون في ( بلقيس والهدهد) وشوقي كريم في ( لبابة السر ) ومحمد خضير في ( المملكة السوداء )، حيث أن جميعها ملاحم قصصية وروائية ورؤى تتحدث عن عذابات الإنسان المعاصر وصراعاته مع الطغاة والمتسلطين على رقاب الناس منذ عصر المماليك وحتى عصر الملكيات وما تلاها.

وتبقى( خيول المعنى ) إضافة كبيرة للأدب العراقي والعربي وموسوعة ثقافية تضم حكايا من ذلك الزمن المليء بالمفاجآت والمفارقات العجيبة والتي عاشها الخلق بطولها وعرضها

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة