الغــــــزو الثقــافي

محـمد زكي ابراهم

لم تكن كلمة الغزو قادرة على أن تترك أثراً طيباً في نفوسنا، أو تتمكن من خلق مشاعر إيجابية لدينا. بل كان مجرد ذكرها يبعث في أذهاننا الإحساس بالقهر، والظلم، والتسلط الاجتماعي.  وكانت هذه الكلمة تعبر عن سلوك مأزوم في الجاهلية الأولى، حينما كانت القبائل العربية تعيش في صراع دائم مع البيئة. فالموارد القليلة التي تحصل عليها في الصحارى القاحلة لا تفي بمتطلبات النمو السكاني. وكانت مشاعر الحسد والبغضاء والثأر تدفع بمجاميع قبلية لانتزاع ما في أيدي خصومها من ثروة مادية، وأحياناً بشرية، لتضمن لنفسها العيش الرغيد، غير عابئة بما تتركه في نفوس الآخرين من جوع وفاقة وآلام. فهناك طرفان منتصر يملي شروطه، ومهزوم يدفع ثمن هزيمته، وهكذا .

في ما بعد تحول هذا الفعل من مجموعات صغيرة لا يزيد عدد أفرادها عن عشرين أو ثلاثين شخصاً إلى جيوش جرارة تبلغ عدتها عشرات الآلاف. وكل همها أن تغزو الممالك القريبة للاستيلاء عليها. فتضمها إلى سلطانها وتغنم منها ما تستطيع حمله، ثم تكبلها بالضرائب والعشور، وهكذا.

غير أن هذه الصورة النمطية للغزو بدأت تتغير بمرور الوقت. وبات من الشائع أن نشهد نوعاً جديداً منه، يتسم بالإيجابية. وهو الغزو الثقافي.

كان هذا الغزو ، يترافق في البدء مع الحملات العسكرية التي تهدف لاحتلال الأراضي. وأول من عمل به هو الاسكندر المقدوني، الذي نقل ثقافة الإغريق إلى بلاد المشرق. ثم جاءت بعده بقرون الفتوحات الإسلامية التي انطلقت في القرون الهجرية الأولى، وكانت غزواً ثقافياً، حمل معه اللغة والعقيدة والمبدأ الأخلاقي. أي أن الجيوش الإسلامية كانت تطأ الأرض، ثم تغادرها بعد زمن يسير، تاركة فيها القراء والحفاظ والدعاة. ولا يمر وقت طويل حتى يقوم أبناؤها  بذات المهمة، وهي الغزو الثقافي لبلاد أخرى وهكذا.

ومن أشهر الأمثلة على ذلك، الغزو الإسلامي للأندلس الذي جرى على شكل موجتين عسكريتين عامي 712 و740 للميلاد. ولم يزد عدد المشتركين فيهما مجتمعتين عن أربعين ألفاً من العرب والبربر. وخلال مئة عام قام هؤلاء بتعريب اسبانيا. واصبح دين الإسلام هو السائد فيها. وبقيت الأندلس دولة قائمة بذاتها لا تدين بالتبعية لأحد.

لكن هذا الغزو غير طريقته هذه الأيام، بعد أن انتفت الحاجة للجند والخيل والسلاح. فقد أتاحت له وسائل الاتصال الحديثة أن يؤدي مهمته دون كثير عناء، وأن ينشر رسالته بغير ما إكراه. وتقوم الدول المتحضرة بتصدير ثقافتها للبلدان المتخلفة. وتزيح الحضارات الحديثة اللغات التي لا تملك إرثاً، وهكذا. ومن الطبيعي أن  يتبع المغلوبُ الغالبَ، ويقود المنتصرُ المهزومَ. وإذا كنا نحن العرب قد قمنا بغزوات ثقافية ناجحة في الماضي، فإن الهجمة قد ارتدت علينا اليوم. وهذا هو منطق التاريخ. يوم لك ويوم عليك. فإن كان لك فاغتنم الفرصة، وتحل بالعزيمة. واستعد لليوم الآخر الذي تكون فيه هدفاً سهلاً للغزو، ومادة رائجة لاحتلال العقل، وأداة طيعة للتوسع والعدوان. 

م؟

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة