«موت الام».. والحركة الزمكانية

علوان السلمان

الرواية.. فن يسجل حركة الواقع بشخوصه واحداثه مع اضفاء التخييل المحرك للذاكرة، وسيلته اللغة الموحية القادرة على التقاط اللحظات المشهدية من واقعها وتصويرها واستلهام تناقضاتها عبر دائرة فضائية متسعة تتمتع بشموليتها لخارطة الوجود الانساني وقدرتها على رصد العلاقات الاجتماعية،لتقدم حبكة درامية تحتضن مشاهد متفاوتة تستدعي الواقع بكل علاقاته المجتمعية فتكشف عن بواطن شخوصها من خلال انفعالاتها وتفاعلاتها في البيئة والحدث وتوتراته من خلال وعي المنتج(السارد) واستيعابه للأشياء بوعي متأمل كي يكون مؤثرا في الاحداث مسهما في خلقها بقدر ما يحمل من خزين معرفي..كون الوعي شكل من اشكال النشاط الذهني الذي يكشف عن(المسكوت عنه والمقموع) كما يقول فاضل ثامر. لذا فهو يسجل الانفعال السريع لحركة الواقع المتسارع ويرصد تحولاته ومتناقضاته القائمة بسردية تعني بمظاهر الخطاب اسلوبا وبناء ودلالة، وتحقيق عمليات الكشف من خلال اقتحامه الوجود المجتمعي وحركته الزمكانية المقترنة بدائرة كونية..
والنص السردي(موت الام)بكل عوالمه السردية التي افرزتها ذهنية الروائي حنون مجيد ونسجتها انامله واسهمت دار أمل الجديدة في نشرها وانتشارها/2020..كونها تتميز بتنوع مضامينها الاجتماعية والنفسية والعاطفية..مما خلق حالة من استفزاز الوعي الذاكراتي لتشكل نصا منسوجا نسجا مقنعا(محملا بقدرة من الحساسية)على حد تعبير هربرت ريد، فضلا عن اعتماد السارد التقصي والاستقراء في معالجة الحدث ضمن مراقبة مكثفة لحركة الشخوص..فيكشف عن قدرة متأملة في خلقها للشخصية الفاعلة والمتفاعلة بحركتها في الفضاء المكاني بامتداداته وتشكيلاته التي تتحرك فيها الشخوص ذات العمق النفسي..المليئة بمفاجئات السلوك المتفرد..فيحيل السارد الخيال الواقعي الى خيال متجسد فيه الحلم مقترنا بالحقيقة..كي يجذب المستهلك (المتلقي) للعيش معه يقظا امام نصه السردي الذي يكشف عن اسلوبية اجتماعية..
(من خلال فتحة خيمة العزاء،طفقت اتابع بنظري وجوه النسوة البيض،تشع من دون سائر الاجزاء الملفعة بسواد العباءات، وهن يمررن نحو البيت المحزون بمحاذاة ستارة الخيمة في حياء مخلوط بوقار الموت.. تلك اللحظة التي اخذتني عن صديقي رأفت، لم اشاهد امرأة سوداء او حتى سمراء، ذلك انهن لا ريب من نساء عقد الكرد الفيليات البيض، وخلف خط الموت أو الحزن، يمكن للأبيض ان يستدعيك اليه ولو في أخذ سريع..) ص9 ـ ص10
فالنص يقدم رؤية متشابكة بين المنتج (الراوي) والواقع بكل تمفصلاته.. باعتماد المشهد الذي ينتزع اللحظة ويسجلها بعناية متناهية..مبتدءا بضمير المتكلم من خلال حوار ذاتي وحركة الزمن ..الخفي التعاقبي.. الافقي في بناء حبكة النص وفق رؤية تترتب بموجبها النتائج على المقدمات بلغة واعية متزرة بمنطق التعاقب والمشهدية المبنية على الحوار بشقيه ( الذاتي والموضوعي) الذي عزز من عنصر الدراما في السردية الاجتماعية بشكل عام.. ابتداءً من العنوان العلامة السيميائية والايقونة الدالة التي اعتلاها اسم الجنس الابداعي ولوحة تجريدية ضاجة بالألوان فاسم المنتج الذي اعتلى الجميع بلونه الاسود الكاشف عن ذات مأزومة وقلقة نفسيا..فالاهداء النص الموازي الدال على المتن السردي السابح ما بين حياة وموت(الى ليلى..الى روح ليلى)..اضافة الى اتكاء المنتج على نص شعري لفروغ فرخزاد
عندئذ بردت الشمس
وغادرت البركة الارض
وجف العشب الاخضر في السهول
والسمك في البحر أيضا
وبعد ذلك امتنعت الارض عن تقبيل الاموات
في ذاتها..
(ساد هدوء ثقيل بعد ان تلاشت فوضى العاصفة التي اجتاحت البيت..تراجع الجميع ممن وفد علينا من رجال ونساء، الا ثلاث نسوة جارات سوف يتكفلن حمل أمي الى غرفتها.. حملت نفسي على متابعة جسدها الذابل ينقل الى غرفتها، وكل شيء في قلبي يفور، تبعتها الى هناك، أتطلع الى كيانها المرتجف ووجهها الشاحب وأرنو الى السماء وأقول: يارب..خرجت من الغرفة حيث يطل نور محايد لمطالع النهار،يشمل دونما جلبة، مشارف البيت العليا وبعض الاركان والسطوح.. تبعني ابي، هو الآخر، اذ حللت.. أشعل سيجارة بأصابع مضطربة، ومضى يقطع بقامته المديدة خطوات قصيرة ثقيلة،ويرفع كل مرة نظرا محتقنا نحو النقطة المحددة باطار فضائنا الضيق الاعلى..هناك جلس على كنبة ريثما ينهي سيجارته،ويلقي نظرة على أمي ويغادر الى محل عمله..
أصبح كل شيء محددا بإرادته، عندما أطلق هتافه الحازم، مهلا، مهلا، لن نحتاج الا الى بعض الهدوء والهواء..لينفض الجميع عنها رجاء..) ص9..
فالنص يعتمد الحكاية في ترتيب الاحداث وتفاعلها وتناميها بخطابها السردي الذي يتسم بواقعية تسجيلية تتميز بالحركة مع اتساع مساحات المكان البؤرة الثقافية الراصدة للموقف الاجتماعي..فضلا عن اشتغاله على سايكولوجية الشخصية انطلاقا من معطياتها وسلوكها النفسي وتحولاتها.. اضافة الى اتصافه بالتعابير السردية(حدث/شخصية/فضاء مكاني بشقيه المغلق والمفتوح/بعد زماني/حوار داخلي(ذاتي)وخارجي (موضوعي)..
(ظلت صامتة تداور بنظراتها عليك مرة،وتلقيها طويلا على الفراغ المحيط بنا ثانية، وكأنها لا تريد ان تقول شيئا، ولكي تحرر طائرك من بين يديها المعقودتين، سألتها:
ـ ما وراءك يا أمي؟
ـ من أين لك هذه الفتاة يا عبد الغفور؟
مع زميلات لها من والى بيوتهن في رحلة الدراسة كما تعرفين
ـ أبدا.. جعلت أختصر الاجوبة لأصل الى ما هو الاهم، رأيتها في الفتاة..
ـ أهلها.. نسبها، أما عرفت عنهم شيئا؟
ـ هي أولا يا أمي.. لقد راقبتها اياما..
في كل اجابة هناك كلمات ابتلعها، واريدها ان تفعل تلك مثلي، لكنها أمي…..
ـ والمرأة من النظرة الاولى، ثم انها ستعيش في بيتنا وتحت رعايتك انت، واخبريني ماذا وجدتيها واهلها؟ أضفت.. طوفت نظرها القائم على وجهي ورقت بسمة شحيحة على شفتيها: جميلة واهلها كرام، مبارك) ص78ـ ص79..
فالشخصية في النص تتحرك في عمق وضعها الانساني من خلال الحوار المتماهي وحسها عبر مشاهد تترجم المشاعر منطلقا من تصوير الجزئيات،والتركيز على المفارقة المتناغمة والبناء الدرامي مع فاعلية التتابع الصوري المنطلق من معطيات واقعية..تكشف عن التقاليد والعادات الموروثة والمرحلة التاريخية..بلغة متدفقة يميزها وضوح معانيها ودلالاتها وقصر سبكها الجملي مع تكثيف المعاني وانسجامها مع طبيعة السرد باعتبارها لغة فنية واقعية..
وبذا قدم المنتج(السارد) نصا سرديا ينتمي الى الواقعية الاجتماعية وهو ينتهج مستويين متداخلين اولهما: المستوى الواقعي ببعديه التاريخي والاجتماعي.. وثانيهما المستوى التخييلي الخالق للبعد الجمالي بفضاء زمكاني متداخل عضويا عبر لقطات سيمية كشفت عن قدرة السارد الامساك بزمام لغته وشخوصه فسجل التفاصيل اليومية والهم الانساني إضافة الى انها تنفست عالم الحب وخاضت موجه لكن الموت اخذ مساحته مضفيا طابعا تراجيديا ومحققا مقولة هيدجر(الكائن في اتجاه الموت)..

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة