حياة مجازية في “الرحلة الناقصة”

كه يلان محمد

كتابة السيرة الذاتية واستعادة الزمن الذي قد مضى واستذكار الوجوه التي قد غابت محاولةُ لتفحص تجربة الذات ودورها وسط سيرورة الأحداث المتسارعة التي قد تتطلبُ مسافة إلى أن يتمُ إدراك حيثياتها، والأهم في هذا السياق هو تحديد موقع الفرد ومساءلته، لأفكاره سواء بوصفه ذاتاً فاعلة في خياراتها أو منساقة بفعل المؤثرات الخارجية نحو مآلات معينة. هذا عدا عن مساع رامية لصياغة رؤية واضحة بشأن الظواهر التي تسودُ في بيئات مختلفة. وتحديد نمط الأفكار المطبوعة بإيقاع الأزمنة والتحولات الاجتماعية والسياسية وما لهذا من تمثلات على سلوكيات شخصية وشكل الحياة والتطلعات المُستقبلية ضف إلى ذلك فإنَّ التقابل بين الأجيال والمراحل التاريخية يكونُ عنصراً هاماً في عملية سرد السيرة الذاتية إذ كثيراً ما تتوارد علامات مكانية وشخصية تحيلُ إلى الاختلاف في المسلك الحياتي والتحول في البنية الفكرية داخل الكيانات الاجتماعية وهذا الملمح في التقاطع بين حياة الفرد وواقعه المتقلب يبدو بالوضوح فيما ترويه الكاتبة والناقدة العراقية فاطمة المحسن في عملها السيري المعنون ب”الرحلة الناقصة” إذ قدر لها معاصرة زمن حافل بزخم فكري وسياسي ونشأت في مناخٍ أتاح لها معاينة بوادر صعود تيار ثقافي جديد يخالفُ أنصارهُ النموذج السائد في الكتابة وأساليب التعبير المُلتوية ،والشطحات السوريالية والغموص والصياغات المفضلة لدى الموجة الستينية. فإنَّ تاريخ الأدب العراقي برأي الكاتبة عبارة عن حرب المواقع بين الأجيال وكان التطاول على الرواد جزءاً من الحروب الكلامية. وتلاحظ فاطمة المحسن في منفاها اللندني وجود أشخاص بين المثقفين أرادوا انفصال عن القيم المحلية والتماهي مع ثقافة الغرب ولم يمتنع بعضهم من الاستخفاف بالأعمال الأدبية العراقية كما أنَّ الانطباع الذي تأخذه صاحبة “تمثلات الحداثة في ثقافة العراق” عن أفراد من أبناء وطنها يشجعُ على الانقطاع بدلاً من التواصل وأكثر ما يزعج العراقي حسب رأي فاطمة المحسن هو مناقشة مسلماته .ومما يلفت النظر هو حظوة الكحوليين والخارجين عن الأصول والشتامين في الوسط الثقافي العراقي. إذ تقارنُ الكاتبةُ بين الشاعر العراقي وغيره من الجنسيات الأخرى في المظهر والطقوس والسلوكيات. كل ذلك الحديث لا ينفصل عن هموم الذات وخيباتها وتضاعفُ الغضب على قادة الحزب ومقايضتهم بأحلام الشباب والمناضلين.

مدن

حياة المرءِ امتدادُ لسيرة الأمكنة وهي ليست حاضنة للحدث فحسب إنما مكون أساسي في تشكيل الرؤى الفكرية وتحديد المسارات. تعودُ فاطمة المحسن إلى مدينة الناصرية التي ولدت فيها مشيرةً إلى أنَّ مدحت الباشا هو من أسس الناصرية التي استعارت اسمها من الشيخ ناصر السعدون وهو قادم من بادية الجزيرة تشهدُ المدينة في الخمسينيات والستينيات حراكاً سياسياً وتطوراً على المستوى المجتمعي والثقافي وكانت حسناء المدينة مي الدهش قد أججت قريحة العشاق وجذبت إليها الأنظار. تعيدُ حكايات السينما الإيطالية عن فتاة القرية إلى ذهن الكاتبة صورة مي الدهش التي لم تراها إلا مرة واحدة. تتميزُ مدينة الناصرية حسب قول فاطمة المحسن بالمكر والمراوغة فالمعارك السياسية في بيئتها تسبقها موجة من الإشاعات والنكت. وما يؤشرُ إلى تبدل أجواء المدينة في المراحل اللاحقة هو تغير اسم مواقعها حيثُ يسمي شارع درب الهوى الذي كان يقعُ فيه بيت أهل المحسن باسم أحد الشعراء. أكثر من ذلك فإنَّ ثقافة الأرياف غزت المدينة وتزايد عدد المنتحرين بين شبابها نتيجة بؤس الأحوال الاقتصادية. ما أن تبلغ كاتبتا سن العاشرة حتى تنتقلُ وظيفة الوالد إلى بغداد وبالتالي يستقر أفرادُ الأسرة هناك حيثُ تكمل فاطمة المحسن الدراسة الجامعية متخرجة من كلية الآداب في الجامعة المستنصرية. وهي في المرحلة الثانية من الكلية حين تباشر العمل في مجلة الإذاعة والتلفزيون هناك تتعرفُ على النخبة المثقفة منهم فالح عبدالجبار وزهير الجزائري ومن ثمَّ تنحو حياة الكاتبة الحزبية والمهنية منحى جديداً عندما تلتحقُ بجريدة طريق الشعب التي التفَّ حولها المثقفون وأصبحت منبراً فكرياً ويتطوع كثير من الشباب المنتمين إلى الحزب الشيوعي للعمل في هذا المطبوع الحزبي إذ تنجزُ الكاتبة تقارير نوعية عن الفلاحين والعمال والنساء. غير أنَّ ذلك يكلفها قراءاتها واهتماماتها الأدبية ،ولا تنتهي مهمات فاطمة المحسن عند هذا الحد بل وكل إليها الحزب بتدريس الشابات اللواتي ليس لديهنَّ معرفة بمبادئ الماركسية اللينينية. ومن بين القادة الشيوعيين استهوت روزا لوكسمبورغ قلب الناشطة الجامعية. وكانت تعلق دبوساً عليه صورة نسر الاشتراكية المُحلق. تكتسبُ فاطمة المحسن دراية في التعامل مع محيطها وتظهرُ في المواقف كلها بصورة امرأة صارمة وصلبة وهذا ما يحتمهُ الانخراط في العمل الحزبي والصحافي عليه تلمحُ الكاتبة إلى مرارة تجربتها الأولى في الزواج. فكان العاشق قد هدد بأنه ينتحر إذا لم توافق علي طلبه.

منفى

يتحولُ الوطن إلى هامش لتجارب المنفى. ترتحلُ الكاتبةُ بعد الخروج من السجن بين المدن إذ تعبرُ بالسليمانية مُغادرةً نحو إيران وتفترقُ من طفلتها “نهار” ولم تغامر بأخذها في رحلة شاقة إلى جبال وعرة وصادف أنْ كان وصول الكاتبة إلى إيران متزامناً مع مرحلة مفصلية في تاريخ البلد إذ سقطَ نظام الشاه وحلَّ مكانهُ نظام ثيوقراطي إذ تشير المحسن إلى استماتة النساء في رفضهنَّ لأوامر رموز النظام الجديد وتبدأُ ملاحقة الشيوعيين والعلمانيين في شوارع طهران إلى  أن يتشحُ البلدُ بلون واحد وتنفردُ مجموعة بالسيطرة على مقاليد الحكم تماماً كما حصل بالعراق إذ بعد تفكك الجبهة الوطنية القومية خلت الميادين لحزب البعث. يُذكر أنَّ الكاتبة ما برحت تقارن بين تكوين الشخصية العراقية ومواطن الدول والأماكن التي حلت بها. والغريب في الأمر أنَّ فاطمة المحسن كانت قابعة بين جدران السجن عندما يلقى حارسُ بصحيفة في زنزانتها عنوان مانشيتها ينمُ عن قيام الثورة. والمؤثرُ في حياة الكاتبة إلى جانب تجربتها الصعبة مع المرض هو معاناتها في السجن إذ ذاقت قساوة التعذيب والتنكيل بجسدها النحيل دون أن تعلن الاستسلام والتراجع قيد أنملة من موقفها. ومن المفارقات أن هذه الإرادة في التحمل تكسبها احترام الجلاد ويدورُ حوار معبر بينها وبين العقيد أبو سيف الذي يقتلُ في 2003 وما كان يشعر الكاتبة بحركة الحياة داخل السجن هو النقر على الجدار الذي كان يفصلها عن صديقتها منال المالح. وتشير إلى هيفاء زنكنة وبرهان شاوي فذاكرة كلاهما موشومة بمعاناة السجن. كما تحرصُ فاطمة المحسن على استذكار الرفاق الذين التهمتهم عتمة المعتقلات منهم صفاء الحافظ صباح الدرة موفق الأحمر وسامي العتاب وتبدى تأثرها العميق بمصير الشاعر يوسف الصايغ الذي كان سخطه طال كل شيء ورفض الهروب من العراق وينضمُ في نهاية المطاف في صف النظام. تشي لهجة الكاتبة وهي تتحدثُ عن تجربة السجن بالغضب متسائلة  ما الضير لو وقعت وخرجت مبكرة في السجن؟ والحال هذه تستعيد فاطمة المحسن ملامح المدن التي أقامت بها إذ لم تنقطع عن بيروت وأجوائها الثقافية وطبيعتها الكوسموبوليتية التي استضافت المناضلين والمعارضين من شتى الجنسيات العربية والأجنبية. وفر فضاؤها مجالاً للتواصل الثقافي .كما أن لدمشق مكانة أثيرة لدى الكاتبة هناك تبدأُ قصة حبها مع الباحث  العراقي المعروف فالح عبد الجبار. وكانت بودابست محطة مهمة أيضاً في حياتها المعرفية إذ تفلح في إنجاز أطروحة عن التجديد في الشعر العراقي كما رمت بمفكرتها التي كانت بمثابة ذاكرة لحياتها الحزبية والصحافية في هذه المدينة. زادَ ارتباط فاطمة بلندن عقب تجربتها الممضة مع المرض الذي قربها أكثر من إنسانية فالح عبدالجبار كما أبان عن سمو المشاعر التضامنية لدى بعض الأصدقاء منهم آهانيت سركيس. عندما ترجعُ المحسن إلى بغداد بعد ستة أشهر من سقوط صدام تشعر بأنها بيئة طاردة ويصعبُ عليها التآنس مع فضائها المتبدل. وما يستحضرُه الذهن وانت تكمل قراءة هذه السيرة هو ماتسرده الكاتبة عن رؤية نفسها في الأحلام وهي تطير تارة وتسبح تارة أخرى وما عليك سوى ربط ذلك بما راودت الناشطة الشيوعية من أحلام بخوض غمار النضال في مستنقعات فيتنام وتشيلي وبردى الهور وفلسطين مزينة بنجمة حمراء. وما تستخلص إليه أن الأحلام التي كانت حياة مجازية ربما تبددت وأصبح البحث عن أنظمة أقل دكتاتورية وإستبداداً منشودة بدلاً من التطلع للعودة إلى أرض موعودة ومن المشاهد الصادمة التي قد عمقت الشعور بالخيبة لدى فاطمة المحسن رؤية كاسترو وهو يسلم الجائزة لصدام. لكن ما تمسكت به فاطمة هو صلابة في الموقف ورفضها أن تكون تابعة ولو لأقرب الأشخاص. وعندما يضيقُ عليها رداءُ الحزب تتخف من عبء الأيديولوجيا وتخرج يذكر أنَّ المحسن قد فردت الأقسام الأخيرة من الكتاب للحديث عن رفيق دربها فالح عبدالجبار ودور الأخير في مساندتها خلال فترة المرض.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة