علوان السلمان
القصيدة الشعرية صورة من صور الوعي الاجتماعي الذي هو انعكاس للوجود الاجتماعي، وسيلتها اللغة وغايتها الاسهام في بناء الانسان الذي يتحول باستلهامها الى فعالية مشحونة بالحركة والتساؤل، كونها مهارة فنية، وقدرة على التركيز بابتعادها عن الوصفية، واعتمادها التكثيف والايجاز، فكانت ضربا متميزا من التقنية في القدرة على ايجاد بنية شمولية في اسطر محدودة تتطلب وعيا متميزا معنى ومبنى.
والشاعر نصير فليح في (اماكنــ نهار)/2010 شكل تجربة كتابية تحفز متلقيها على القراءة للكشف عما قاله الشاعر بانها (مكاشفات عن جمال العالم وكآبته) بعد ان سبقتها (دائرة المزولة)/1998(اشارات مقترحة)/2007 و(الوجود هنا) /2008 . وفيها يعتمد الشاعر نسق التبويب، حيث يندرج ضمن كل باب عدد من القصائد تتمثل في (دانتي ـ مدينة الثورة ـ اعادات) الذي تضمن ثمان قصائد بعناوين حمل كل عنوان مفتاح النص.. و( انا ـ ترسبات ـ ديمومة) التي احتضنت ست عشرة قصيدة احدها بعنوان مشترك (الآخرون) كونه يحمل نفس الهم.. و(اماكن, ربما ) التي احتضنت ست عشرة قصيدة ..واحدة منها ثلاثة احلام . وانفردت واحدة بعنوانها المميز بلغته الانكليزية (chaos) والتي تعني الفوضى. و( وطن ـ بلاد ـ بلا..) شكلت ثلاث قصائد.. و(المطلق ـ ايضا) ..واخيرا (مكاشفات ـ مكاشفات ـ خاتمة). وهناك هوامش وملحق نقدي بقلم الناقد ياسين النصير الذي وسع مديات قراءته لتكون منجزا نقديا شاملا لمجموع قصائدها بعنوان(الطمي والرماد).
واسهم الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق في نشره وانتشاره/2020.. وقد اشتمل على قسمين واثني عشر فصلا.. من خلالها يقف على ماهية الشعر وكونية العوالم المحلية ومفهوم المكون الشعري والكوني في العابر والاسطوري والملحمي والشعر والفكر في فصله الاول الذي كانت دلالته السيميائية(مجاورات واسئلة) سبقها بمقدمة ومدخل منه(أعول في رؤيتي النقدية على امكانية تغطية شعريته بمنهجية نقدية منفتحة على الرؤية الكلية لشعريته بكل مراحلها وبكل تعرجاتها ومنحنياتها، فهي تجربة منفتحة على ذاتها، تغتني عندما يضيف الشاعر لها ما يملأ بعض مسامات طياتها ) ص13. اما فصله الثاني فقد انحصر في عنوانه المتفرد بجملته الاسمية التي حذف احد اركانها(الطريق الى المابين) الذي يركز فيه الناقد على طبيعة بنية قصيدة الحركة الثانية للحداثة الشعرية التي جعلت من القصيدة موضع سؤال للوجود وليس موضع استنتاج او انعكاس له وهذا يعني ان تنوعا واسعا جرى لقصيدة الحركة الثانية للحداثة حيث تمثل قصيدة ادونيس انموذجا خاصا يجمع بين التراث والحداثة عبر تضمينها صوفية معاصرة وشعرية ثقافية سماها اللغة الثانية..) ص63. ويرى الناقد ان المابينية موضوعة ذات مسارين: مسار يتحرك بالشعرية الى امام ومسار يتحرك باتجاه مرجعها لتواكب مسارها الى الامام فكل ازمنة القصيدة تتحرك. يعني ذلك ان القصيدة كيان مركب من الازمنة والامكنة موضع السؤال المعرفي. وان القصيدة لا تنتهي بمجرد كتابتها. فأفقها المعرفي ينفتح على مدياتها المختلفة. لذا يقول الناقد(ابتدأت بالعنوان الاشكالي(الطريق الى المابين) لوجود هذا المفهوم مترسخا في شعرية نصير فليح. فالناقد يقول(ان المابينية في شعره(موضعة اختيار وبحث وتحويل). و(اية صورة فيها لا تبقى ضمن معناها النحوي والجمالي بل تخرج الى التأويل والاستعارة والكناية. وهذا يعني ان التفكير يصاحب تحولات القصيدة. اضافة الى (انفتاحها على التفكير الفلسفي أي ما يشكل عمقها تفكير متحرك نحو افق ابعد من الحاضر هو عمق تأويلها..) س66..
رغم وجه الماء / تمددت نخلة / كان الفضاء صغيرا
ولكن فسحة الظل تشتد بين الغصون
قد نبني مركبا هنا
في فسحة الظل هذه ويحسب انه النهر..)
فالما بينية هنا هي(فسحة الظل) التي سيبني الشاعر فيها مركبه كونها(شكل من اشكال المبادلة بين حرارة وبرودة، وبين ضياء وظلام، وبين كينونة طبيعية ولغة شعرية..)ص67..
وتكون متهيأة لإنتاج شكل ثالث لهما وهو الموضعة المظللة نفسها.. ولكن الظلال لن تستمر لضعف امكانياتها بالديمومة، فهي تشكيل زمني/مكاني مؤقت، لذلك يكون اللعب الفني فيها مركزا وسريعا. أما الفصل الثالث فركز على معمارية الفضاء والتركيز على التيمة المحورية متمثلة بالنواة.. اما الفضاء الشعري واللا تعيين الفضائي الذي(هو عدم انتساب أي فضاء محلي لقضية محددة بمحليتها..)وهذا ما يفعله ابراهيم الكوني في تعامله مع الصحراء يعين الامكنة التي تجري فيها الاحداث، لكنه في الوقت نفسه يطلق هذه الامكنة الجزئية في مفهوم الصحراء لتصبح من الامكنة اللا متعينة فضائيا وهو ما يفعله نصير فليح في اماكنه المحلية العراقية(مدينة الثورة وشارع الرشيد وبغداد الجديدة وساحة الميدان وباب المعظم وشارع ابي نواس..)ص101.
ثم ينتقل الى مفهوم الشعرية النقدية في فصله الرابع كمفتاح للدخول الى قصائد الشاعر والوقوف على مجموعته(اماكنهار) في فصله الخامس. اذ العروج الى الشكل والدلالة. أما فصله السادس فانحصر في دراسة وتحليل قصيدة(دانتي..زقاق..مدينة الثورة) التي تبدأ بـ (قد لا تكون حيا كما تظن) التي تضع المستهلك أمام سؤال الوجود(الموت في الحياة)..
خلف الزجاج يتكدس الحشد
طرائق غريبة للموت تظهر
يتكاثر الذباب على الصمت
والعيون التي ترتمي من خلال الزجاج
تحدق فيك كالشمس
اذن لم يكن مخبأ
كنت في لحم الزجاج منذ البداية
عندما كنت وجها
وترسم في نخل البداية صورتك..
ففي النص نجد ثمة ترنيمة جنائزية عميقة يرددها الزقاق مستعيرا نبراتها من جحيم دانتي آتية الى زقاق صغير تحول الى مرآة زمنية تختزن كل المآسي اليومية وتودعها لغة وصورة في مخزنها المحلي المنفتح على من يملك طلسم ابوابها..)/ ص129.. ثم يستحضر الناقد النص الشعري(شيخوخة) ويفككه ويحلله ويقف على عوالمه ودلالاته الكاشفة عن(قصة حب فاشل) لم يبق منه الا الاثر.. وهذا ما تناوله في الفصل السابع.. أما الفصل الثامن فقد تناول فيه قصيدة(موت مدينة الملاهي مساء) التي شكلت صورة عن افول مطبق للواقع الذي يراه الشاعر رؤية متجاوزة للمألوف.. فالانتقال الى نص(بِلا) بكسر الباء واتصاله بلا النافية المعترضة بين الجار والمجرور الذي يدل عليه التنقيط ..وهنا يكون كل شيء محكوم بلا والذي انحصر في الفصل التاسع. أما الفصل العاشر فكان سائحا والنص(ذاته)..ومن ثم يعرج على نص(تناسخ) تحليلا منحصرا في فصله الحادي عشر والذي يبدأ بنص الشاعر:
في(حياة اخرى)
عرفت ساحة اسمها(الميدان)
وشارعا بأعمدة متوالية
وذكرى البيوت المخضبة في البعد..
لكنني في قبوي الآن
أراقب الفصول التي تتعاقب في الكوة
وأعرف موتي
من لحظة نادرة يجددها الانتظار /ص191
ففضاء القصيدة بني من الاشياء والكلمات والحركة الفاعلة هي في الكلمات وليس في الاشياء…ففضاء القصيدة المشيد من الاشياء يستنسخ تشكلاته من تعاقب الفصول وساحة الميدان والبيوت المخصبة بالبعد والقبوة والكوة والفصول التي تتعاقب والموت المنتظر..)ص195ـ ص196…أما فصله الثاني عشر والاخير فقد حمل عنوان(غنوص) الذي يكشف عن الطريقة الشعرية للشاعر..(طريقة لا تخلو من مختبرية تجريبية تقوم على تغريب الاشياء الواقعية وجعلها في لحظة احتدام ذاتي..) ص /197..
من كل هذا نكتشف مدى عناية المنتج (الشاعر) بالتشكيل الجمالي الذي ينم عن قدرة بنائية خالقة لصور شعرية تقوم على مدركات عقلية تكشف عن وعي شعري يقوم على وحدة موضوعية كونه يدفع بدينامية الكتابة الى اقصاها لكي تتوالد صانعة رؤيا مكثفة تسبح في عالمها الحلمي مع سيطرة على الطاقة اللغوية بكل ارتباطاتها. كون جوهر النص يكمن في احضان الخلفية اللغوية لتحقيق الوظيفة الشعرية ومن ثم التعبير( غير العادي عن عالم عادي) على حد تعبير جان كوهن…كل هذا استفز الناقد ياسين النصير وكان(الطمي والرماد) كما نرى…والذي شكل اضافة خلاقة يزهو بها الفكر الانساني والمكتبة الانسانية ومنهجا للدارسين والباحثين عن المعرفة.. كونه خطا خطوات نقدية متقدمة في جديتها تحليلا وتفكيكا وتقويما تطبيقيا كما في فصل (المابين) المختلف في مفهومه نقديا.