عَزيف

عبدالهادي عباس

عندما ولِد الطفل «نديم» صباح الأحد، كانت تعتليه علّة حيّرت الجميع، فقد كان لِسانه يعزف بلا توقّف.
أباه كان غاضباً ومستاءً، وأمّه كانت في حيرة من أمرها، لكن أخيراً، إتّفق الزوجان بعد شهرين من ولادة الطفل العازف، أن يتواصلا معه بلغة الإشارة، علّه يفهم مستقبلاً كيف يبوح عمّا بداخله بعد فشل اللّغة الخطابيّة معه.
دخل الولد نديم المدرسة، وفي أيّامه الأولى لم ينطق بصوت، ولم يتواصل مع أحد حتّى مرّ إسبوع حينما طلب منه أستاذ المادة، أن يقف ليشرح الدرس. لكن الولد الغريب رفض أن ينهض وينطق بشيء. مّما جعل الأستاذ يغضب غضباً شديداً، ويصرخُ في وجهه:

  • (انهض! .. ألم أقل لك أن تقف وتشرح الدرس اللعين؟ أنت ولد عديم الجدوى، خُذ هذه)
    وصفعه الأستاذ صفعة أسقطت الولد أرضاً، أراد أن يصرخ بـ (آه) لكنه بدل عن ذلك،عزفَ أعزوفة مريرة كتعبير للألم.
    هلع الجميع، وأصابهم الذّعر الشّديد. في ذلك اليوم انكشف سرّه، وتناقلت أخباره الجرائد والصحف: (فتى في السادسة .. يعزفُ وُيلحّن بلسانه المجرّد، موهبة أم جنون؟)
    عاش الولدُ نديم وحيداً عُقب تلك الحادثة، أصبح غريباً في المجتمع، وكان لزاماً عليه أن يجالس غرفته، مما اضطرّ والداه أن يجلبا مدرّساًخصوصياً يعلّمه التواصل بلغة الإشارة، بعد أن أجبِر على ترك المدرسة.
    بلغ نديم الرابعة عشر، وكان نصيبه من تلك السنة، أن يتعرّض والداه لحادثٍ وهم في طريقهم إلى البيت، فتوفّيا على الفور.
    ازدادت حياة الولد العازف جحيماً وبؤساً .. وعاش وحيداً فوق وحدته.
    بعد مرور فترة طويلة، وحينما تناساه النّاس، وظنّوا أن قصّة الولد العازف الغريب قد انتهت ظهر لهم في مسرحية مأساويّة، قد دبّرها فنّانان، ليقفوا متفاجئين.
    (مسرحية شارل دنسن بعنوان: «العازف اللّئيم والفتاة الحالمة)
    عزف الولد في تلك المسرحية ببؤسه الشديد، وحُزنه العميق.
    أثار الوحدة والشدّة ترتسمان على وجهه، وعيناه كانتا تلمظان بالقسوة والمعاناة.
    بعد دقائق .. انتهت المسرحيّة الفنّان دنسن، حينها وعلى عجلة منهم، هرع الناس ليتجمّعوا على الولد غريب الأطوار، مشكّلين رُعباً حقيقيّاً حوله:
    ( «أيّها الغريب انطق لنا شيء» .. «هذا الولد لعنة من الإله! علينا بقتله فوراً» .. «أيّها العازف سأعطيك مائة دولار إنْ عزفت في ميلاد أختي» .. «ارحل من هنا أيّها الشيطان المسخ!» )
    مضت أشهرا عُقب تلك الليلة ، ثمّ سنة، ثمّ سنتان، ثمّ تسعةُ أعوام!
    حتّى ظهر أمره للعالم مرّة أخرى، في شقّة نائيّة رثّة، ميّتاً مقطوع اللسّان! دون آثار واضحة للقتلِ أو دليل على الانتحار.
    في صباح اليوم التالي، قُرّر دفنهُ في شمال المدينة، وحينما حضُرَ المُعزّون، وأتلِيت على روحه الصلاة، هلعَ الحضور بعد دقائق وهُم في رعبٍ شديد، حينما سمعوه يعزف من قبره، أعزوفة الرثاء.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة