عباس عبد جاسم
لقد ظهرت النيوليبرالية ، بعد فشل الليبرالية ، للخروج من أزمة « الكساد العظيم -1929 – 1939 « ، التي بدأت بانهيار الأسهم الأميركية ، وقد وصف الاقتصادي والأكاديمي باتريك دينين – patrick J. Deneen – الليبرالية في كتابه « لماذا ( فشلت الليبرالية ؟ « بـ « الليبرالية المعدومة الضمير» .
وكان أوّل مَن استخدم مصطلح « نيوليبرالي» ، هو الأقتصادي الألماني الكسندر رستوف ، فقد دعا الى انتهاج طريق ثالث بين الاشتراكية والرأسمالية ، تكون فيه الدولة قوية « دولة فوق الاقتصاد وفوق المصالح الفردية « .
ورغم ان السوق الحرة تمثل روح النيوليبرالية ، فإننا لم نجد تعريفاً لها سوى انها مفهوم غامض ، تختلط فيه افكار يسارية ويمينية ، إذ يجمع بين رسملة السوق والرفاه الاجتماعي/ بين العمال وأصحاب رؤوس الأموال/ بين الفردية والمنفعة الذاتية .
وقد انبنت سياسة النيوليبرالية على « قوة احتكار رأس المال « ، و» تحرير الانتاج « من خلال الاستحواذ على « الأرباح من دون إنتاج « ، وذلك بتداول الأسهم والسندات في الأسواق المالية .
لهذا اتجهت النيوليبرالية نحو تفكيك « دولة الرفاه « ، وانتزاع السلطة من الدولة ، واستثمار « رأسمالية الكوارث « ، والخصخصة في « بيع أموال ومؤسسات الدولة « .
ومن أهم سمات التحوّل من الليبرالية الى النيوليبرالية ؛ الزواج بين السلطة والمال ، وتحجيم الدولة، وأدلجة السوق ، وتحرير التجارة ، وعلاج الاقتصاد بالصدمة ، وخصخصة التنمية الاقتصادية ، بما في ذلك خصخصة الخدمات الاجتماعية العامة .
إذاً ، نحن إزاء نظام اقتصادي جديد، يسميه برهان غليون بـ « نظام أكثر ما يميّزه سيطرة نوع من الرأسمالية الكمبرادورية « ( برهان غليون/ في جذور تفكك عالم الغرب وبؤس أحوالهم ) .
وبذا شهدت العقود الأخيرة من القرن العشرين تحوّلاً جذرياً في الاقتصاد العالمي ، يسميه الاقتصادي والأكاديمي كارل بولاني بـ « التحوّل الكبير» ، الذي جلب تغيّرات اقتصادية واجتماعية مدمّرة لرأسمالية السوق الحرّة .
وإن كانت الإرهاصات الأولى للنيوليبرالية ، قد ظهرت أواخر السبعينيات نتيجة التضخم الاقتصادي ، وفشل السياسات الاقتصادية الكنزية ، وركود الاقتصاد الاشتراكي ، فإن تطبيقاتها بدأت أوائل التسعينيات ، بعد زوال الشيوعية كآيديولوجية شمولية ، وانهيار الاتحاد السوفيتي كمنظومة اشتراكية .
ومع انهيار اليقينيات في القرن الحادي والعشرين دخل العالم طور الاختلال ، وخاصة « إن اختلال العالم وصل الى طور متقدم « كما ذهب الى ذلك أمين معلوف في كتابه « اختلال العالم « ( أمين معلوف – إختلال العالم / ص 14) ، كما دخل العالم في اضطراب شامل ، حيث اختلَّت فيه قيم ومعايير ومبادئ الحرية والعدالة الاجتماعية وحقوق الانسان ، مما شهد الاقتصاد العالمي اختلالات عضوية في بنياته التحتانية ، وهي اختلالات ناتجة عن : التضخم والركود ، وانهيار أسواق المال ، وتفاقم التفاوت بين الاغنياء والفقراء ، فقد توصّل الاقتصادي الفرنسي توماس بكيتي في كتابه « رأس المال في القرن الحادي والعشرين الى « إن تراكم الرأسمال كان أسرع من النمو الاقتصادي ، والذي أدّى الى بنية منتجة للتفاوت الاجتماعي « كما « ان ظاهرة اللامساواة المتصاعدة ستقضي على الديمقراطية كنظام سياسي « ( د. خوشناف سليمان / نقد النيوليبرالية الرأسمالية/ كورد ستريت 25 مايو 2016 ) باعتبار الديمقراطية القائمة على حكم الأغلبية مصدر تهديد لحقوق الفرد أو الأقلية .
ولكن كيف فكّكت النيوليبرالية اقتصاديات العالم ؟
في كتابها « عقيدة الصدمة « تقول الصحفية الكندية ناعومي كلاين : « إن سياسات السوق الجديدة التي تدعمها المؤسسات الدولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية – استطاعت أن تتمكن من الهيمنة عالميا ًعن طريق « مبدأ الصدمة « ، كما استطاعت رأسمالية الكوارث تلك ، أن تصعد من خلال ، استثمار الكوارث الاجتماعية والسياسية والطبيعية ، واستغلال الشعوب التي صدمتها تلك الكوارث « ( ديفيد هارفي/ موجز تاريخ النيوليبرالية/ ترجمة وليد شحادة/ ص 6) كالحروب الأهلية والاقليمية والأزمات المالية والثورات الشعبية .
وقد لاحظ عالم النفس الأكلينكي باول فيرهايج في كتابه « ماذا عني ؟ what -About me « ظهور بضعة أعراض على الفرد ، مثل إضطراب الطعام ، وميله الى الاكتئاب ، والعزلة وأذية النفس ، والقلق على مستوى أدائه ، بجانب سقوط الضحية للفوبيا الاجتماعية « George menbiot ( النيوليبرالية : النظرية التي خرّبت العالم/ صحيفة – the guardian / ترجمة : محمد سماحة 27 ديسمبر 2017 ) .
لقد قامت النيوليبرالية برفع الضرائب في مقابل تخفيض الضرائب للأغنياء ، وخصخصت مشاريع التنمية والخدمات الاجتماعية ، وقوّضت النقابات العمالية ، وحرّرت السوق من هيمنة الدولة ، حتى جذبت إليها أحزاب يسارية كحزب العمل البريطاني والحزب الديمقراطي الأمريكي ، كما انها خلخلت التوازن الطبقي بين الطبقات الاجتماعية ، فقد أزاحت الطبقة الوسطى لصالح رجال المال والاعمال ، بل وحققت نظاما بيروقراطيا ً جديدا ً أكثر إنتهاكا ً للعدالة الاجتماعية ، وأكثر تلاعبا ً بالعقول ومصائر الشعوب .
وقد أشار ديفيد هارفي في حوار معه الى أن « المشاريع الايديولوجية للخصخصة « و»التغيير التكنولوجي « و» تراجع الصناعة « أدّت الى « البطالة « ، ومن ثم « سحق اليد العاملة «، وشرعنة « شراء الانتخابات « ، وقبل ذلك تكوين طبقة رأسمالية قوية، تقوم بانتاج الأزمات وادارتها في دول العالم . ( حوار مع ديفيد هارفي حول النيوليبرالية/ ترجمة كريم محمد في 8- 8 – 2017 ) .
ولم تكتفِ النيوليبرالية بصنع الأزمات الاقتصادية والاجتماعية ، وانما تقوم باستغلال الأزمات المجتمعية لإستنزاف الموارد الاقتصادية للدول النامية وفق إتفاقات تجارية لترسيخ علاقات السوق بقوة إرادة الشركات الاحتكارية العابرة للجنسيات ، وربط اقتصادات هذه الدول بتبعية الاقتصاد الرأسمالي ومديونية صندوق النقد الدولي .
ولكل ذلك : هل هناك بديل للنيوليبرالية التي فكّكت العالم ؟
ذلك هو الوجه الآخر من تطور الفكر الاقتصادي في القرن الحادي والعشرين !!