علوان السلمان
أدب الرحلات كما نظر اليه مدونو ومحققو الآداب انه علم المسالك والممالك (الجغرافية والتاريخ). إنه فن انساني كالفنون الاخرى مضاف اليه ما هو ادب وعلمي، حتى صار مزيجا من عناصر الفكر والادب والابداع بتساؤلاته، فضلا عما يحققه من تفاعل بين الرؤية البصرية والذهنية، لذا كان الاسلوب الادبي هو الغالب في بناء جمله من خلال انتقاء الالفاظ الموحية المشكلة لنسيجه النصي، والخالقة لجمله المستفزة لذاكرة المستهلك(المتلقي).. اضافة الى اعتماده اسلوب السرد المشهدي السيمي المتكئ على الفنون والاجناس الادبية الموازية، هذا يعني ان مصدر الجذب فيه يكمن في جمعه ما بين الادب وفنونه جماليا والرحلة التجربة المغامرة التي تعد احد المكونات الثقافية وتعميقها، كونها تعلن عن سرد الاسفار وما تلاقيه من عمران واقوام مما يؤكد الاندماج بين زمن التجربة وزمن التدوين باعتماد الذاكرة وخزينها مما خلق نوعا من التشكيل متمثلا في التداخل بين ما يشاهده المنتج(الرحالة) وما يدونه الخيال، فيقدم مجموعة آثار ادبية تناقلت انطباعات المنتج ورحلاته في بلاد مختلفة، لذا فهو توثيق لما يصادفه من اماكن وعادات شعوب فعد من المراجع الجغرافية (الطبيعية والسكانية)..فضلا عن انه مرجعا تاريخيا يكشف عن اسرار البيئة المجتمعية وعلاقاتها وينقل عوالمها وعاداتها وكل التفاصيل المتعلقة بنظامها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي باسلوب ادبي جاذب.
لقد نشط ادب الرحلة وانتشر على ايدي المستكشفين من الرحالة كابن بطوطة الذي اسس لهذا النوع من الادب في(تحفة الانظار وغرائب الامصار وعجائب الاسفار). وهناك الشريف الادريسي في(نزهة المشتاق في اختراق الآفاق) والبيروتي والمسعودي والحموي، حيث كانوا يعمدون الى تدوين رحلاتهم لتكون دليلا للآخرين وقد اطلق على ادبهم ادب الرحلة الواقعي، اما ادب الرحلة الحاضر فاطلق عليه ادب الرحلة الخيالي، الذي يتميز بميزات معرفية تقترن بالسرد الروائي كاعتماد الحوار بشقيه(الذاتي والموضوعي) والاستطراد الوصفي والغوص في عوالم المكان وتشكلاته، فضلا عن تضمينه بعض التقنيات الفنية كالاقتباس القرآني او الشعري والامثال والحكايات كما في (حكايات السندباد البحري وحي بن يقظان ورسالة الغفران ورسالة التربيع والتدوير…)
وعلى امتداد هذه الرحلات اخذ هذا الجنس يعيد نفسه. و(طريق البلقان) بأبوابه التسع عشرة شكل اضافة خلاقة يزهو بها الفكر الانساني وتزدهر به المكتبة، اذ يعد جزء من هذه الاعادة فيوفر بعضا من متنفسه ليفعل فعله في تحقيق المتعة النفسية للمستهلك من جهة والمنفعة الفكرية له من جهة اخرى، وقد اسهم الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق في نشره وانتشاره/2020..لانه يكشف عن مفهوم ادب الرحلات كفن ادبي ابداعي يهتم بالانطباعات الصادرة عن المنتج والتي تشكل خلاصة رحلته الى بلاد البلقان، والتي تبدأ من وداع بغداد والانطلاق من معرضها فساحة النسور فاليرموك وساحة ام الطبول فطريق المطار السريع.
(بغداد تنسحب الى الوراء بسرعة، كما لو كانت راية قديمة متهرئة تركت لتواجه عواصف الارض واعاصيرها جميعا، كنت احسها تتمزق، وانا ينخرني الالم، ها هي اخيرا ساحة عباس بن فرناس، وهي آخر مكان يمكن لسيارات الاجرة بلوغه، وتقع قبل المطار بحوالي عشرة كيلومترات، وفيها حاجز تفتيش دقيق مزود بأجهزة سونار وكلاب بوليسية جرت العادة على تسميتها باسمها الامريكي(k9)،كل ذلك تحسبا لأي اختراق ارهابي قد يطال المطار، تأملت اسم الساحة التاريخي، وفكرت: ما اكثر تبجحنا بالتاريخ، وما اقل اعتبارنا به..)ص10..
فالنص يتميز من الناحية الفنية والادبية بتتابع الصور التي تمزج بين معنيين: اولهما حسي.. وثانيهما : ذهني بتشكل بصري يتحرك وحركات الذات وتحولاتها الشعورية المنطلقة من معطيات واقعية.
اما من الناحية الجغرافية فالنص يتناغم مع المكان وموجوداته من جهة ومن جهة اخرى يلجأ للرمز لما يحمله من دلالات تاريخية تستفز ذاكرة المستهلك(المتلقي)..اضافة الى ذلك تأكيد النص على الزمن وحركته ،والمكان بشقيه(المغلق والمفتوح).
(في الساعة الثانية من بعد منتصف ليلة أيلولية رائعة، ومن نافذة الطائرة التي شرعت في الهبوط التدريجي، بدأ منظر اسطنبول غريبا..) ص3.. فالانتقالات بين المدن(وصلنا قبيل الغروب الى بودروم ولم تكن محطة الباصات التي وصلنا اليها توحي بأننا وصلنا الى مدينة عصرية، فقد كانت ساحة كبيرة غير منتظمة ولا تبدو عليها اناقة محطة ازمير وثمة بعض الغرف الادارية ومتجر صغير في اطرافه، قادنا مساعد سمير عبر ازقة ضيقة الى بانسيون يقع في شارع ضيق هو الاخر، يشتمل البانسيون على فضاء في مدخله وضعوا فيه بضعة ارائك وموائد واطئة فتحول الى مقهى صغير زينت زواياه نصف دزينة من اشجار فتية، أما الغرف فكانت نظيفة لكنها غير مريحة..) ص22..اضافة الى اعتماد تقنية التضمين الشعري المستفز للذاكرة والنابش لخزينها المعرفي..
كأني غداة البين يوم تحملوا لدى سمرات الحي ناقف حنظل /ص23..
وبذلك قدم الرحالة نصا يدين الغربة والاغتراب لأنه يسرق الحرية(في تلك اللحظة وخزتني حريتي كثيرا وشعرت كأنني سجين، لابل ثمة كلمة أخرى لعلها اشد وطأة من سجين ترددت كثيرا في ان اطلقها على نفسي(لاجئ). لذا فالنص يكشف عن تجربة اغترابية تمازج ما بين الزمن التجربة وزمن تدوينها اعتمادا على ما بقي منقوشا في الذاكرة.