صالح الصحن
في حقل الانتاج السينمائي مساحات واسعة للمعرفة والحرفة الفلمية في تامين الفضاء الذي ينفذ به العمل السينمائي برمته دون ادنى خسائر واعاقات، ذلك ما يعتمد على العقلية الانتاجية الحاذقة الواسعة المعرفة بضرورة صنع الجمال في الاشكال والتكوينات المؤثرة والساحرة، وما يؤديه من دور فاعل في التأثير على ذائقة المتلقي وبعمق تعبيري نافذ في المعنى والدلالة والفهم، لهذا كشفت بعض التجارب المنبثقة عن العديد من الافلام التي حققت فيها ضروبا متفردة في الخلق والابتكار للاماكن والفضاءات التي تنفذ فيها مشاهد الافلام، فمثلا ما شاهدناه في فيلم الاعماق The Deepللمخرج بيتر ييتس انتاج ١٩٧٧ الذي يدور عن عثور رجل وامرأة وهم في رحلة سياحية لجزيرة على نقود اسبانية قديمة تعود الى كنز مفقود في حطام باخرة غارقة في المحيط، وهنا نرى ان حوالي نصف مشاهد الفيلم تدور في البحر الذي تطلب تدريب الممثلين والمصورين والفنيين لكيفية العمل تحت سطح البحر، في الغوص وممارسة مهنة التصوير الذي يتطلب كميات كبيرة من الهواء المضغوط حيث قام منتج الفيلم ببناء حطام الباخرة فوق سطح الارض وفي حفرة كبيرة وبصخور مرجانية شبيهة الى ذات المكان الذي غطست فيه، بعد ان ملئت الحفرة بالمياه والاسماك، وهذا ما تطلب عددا من الاشهر للأعداد والتصوير لخلق بيئة مطابقة للحدث الذي تدور فيه قصة الفيلم.، اما فيلم الهاوية The Abyss ١٩٨٩ لجيمس كاميرون الذي بلغت نسبة مشاهده تحت سطح البحر حوالي ٤٠٪ وفيه استخدم خزانين ضخمين لمفاعل نووي وملء احدها بسبعة ملايين غالون والثاني بثلاثة غالونات ماء التي اصبحت تابلوهات مائية مع وضع مئات الملايين من حبات الخرز للاستفادة منها في حجب ضوء الشمس ولتامين جوا مظلما شبيها بأجواء اعماق البحار مع استخدام خوذ خاصة بالغطس وخاصة بتسجيل الحوار و الاصوات، وهنا يعتمد على التوافق المعرفي والحرفي بين المخرج والمنتج لتامين اجواء التصوير، وكذلك ان شطارة الانتاج عملت في فيلم شمال مع شمال غرب لهيتشكوك ١٩٥٩ ارسلت كاميرا خفية لتصوير مباني واروقة وفضاءات مواقع الامم المتحدة التي تدور فيها الاحداث، ثم بناء ديكورات مطابقة وشبيهة لها، لأنها رفضت التصوير في مواقعها الاصلية.، والانتاج الحريص على تجسيد ارقى شكل يحقق انسيابية التصوير وحركة الممثلين في المشاهد المتنوعة ، يحاول بذل المزيد من الكفاءة من اجل لقطة او اكثر ففي فيلم جي اف كي JFK 1991 لأوليفر ستون الذي يبحث عن الدقة لتفاصيل فيلمه، اذ عمد الانتاج على اعادة بناء مكتب البيت الابيض في عهد الرئيس جون كندي بما يتصف من تفاصيل والذي كلف 000’70. دولار لمشهد في الفيلم طوله 8 ثواني، وهنا يثبت الانتاج سعيه لتجسيد المظهر، المكان، الفضاء، بقيمته التعبيرية، فضلا عن وصفه كوثيقة تسجل فيه وقائع المعالجات البصرية.، وكذلك لا ننسى مشهد احراق الجسر في فيلم الجنرال الصامت ١٩٢٧ الذي كلف عملية حرق فعلي للجسر ب42 الف دولار في تلك الفترة ولمشهد واحد في الفيلم، اما في فيلم مملكة الفردوس Kingdom Of
Heaven 2005
للمخرج ريدلي سكوت الذي يتطرق الى الحرب الصليبية، وفي هذا الفيلم حقق الإنتاج مثلا في الحرفة يستحق الاشادة، ففيه وفر حوالي ١٥،٠٠٠ زي يشمل كل منها على ١٥ قطعة للمحاربين مع بناء ٣ ابراج بطول حوالي ٢٠متر لحصار القدس مع استخدام الالاف من قطع السلاح المتنوعة وبناء مجسم لمدينة القدس وبما يحقق المطابقة مع المدينة الاصل من حيث المساحة والارتفاع والبناء الحقيقي والمظهر ، وهناك مثال اخر لعمل انتاج فيلم يتم تصوير مشاهده في سبعة دول وهي بريطانيا وايطاليا والنمسا واسبانيا والمكسيك وتشيلي وبنما، والتي تتطلب السفر والاعداد والانتقال وغيرها من الاجراءات التي لا تخلو من صعوبة وتكاليف انتاج باهظة، هذا الفيلم هو (قدر من العزاء) 2008 Quantum of Solace
للمخرج مارك فورستر وهو فيلم من سلسلة افلام جيمس بوند، واحداثه التي تتطلب ملاحقة المجرمين والارهابيين والذي يقدم اشكالا متنوعة في الحركة والمشاهد المثيرة التي تتخللها سلسلة من المطاردات في السيارات والدراجات النارية والمطاردات الجوية بالطائرات والمروحيات والقوارب السريعة ومن اعلى اسطح المباني وسباقات الخيول وكذلك المطاردات في انفاق وشبكات الصرف الصحي، وهذا التنوع في الاشكال والاماكن والانواع المختلفة من مشاهد الحركة تشكل مساحة واسعة لفهم حقيقي لمعنى فهم الانتاج لمتطلبات تجسيد هكذا نوع من الأفلام، وهناك فيلم نعتقد انه ضرب مثلا مميزا اخرا، لأهمية دور الانتاج في تحقيق مستلزمات فيلم غريب الاطوار، كفيلم سحابة اطلس Cloud Atlas 2012 من اخراج لانا واتشوسكي واندي واتشوسكي وتوم تيكوير الذي يتطلب من الإنتاج ان يؤمن اماكن و مباني وفضاءات وملابس واكسسوارات ولهجات وأجواء لأحداث تدور في خمسة قرون متداخلة وفي ست قصص رئيسية فاعلة مع تبدلات مختلفة متباينة للأشكال والشخصيات والوقائع والافعال وبما يتطلب الذكاء الفريد من الانتاج للسيطرة على راكورات التفاصيل المختلفة في الشكل والحركة والتعبير والاحساس والتبدلات الزمنية المتعددة والمتداخلة سيما وان هناك ٦ممثلين منحوا اكثر من دور في الفيلم وباشتباكات سردية متداخلة تتطلب المزيد من الدقة والانتباه لملاحقة خيوط القصص وانتاج معانيها ، وهناك الكثير من الافلام الاخرى التي اثبت فيها الانتاج درسا احترافيا عالي الكفاءة في الخلق والابتكار ودوره الفاعل في صناعة المنجز الفلمي المشوق والمثير قد نأتي اليها في تناول اخر…