تشريح الانهيار
مايك عازار – مايكل يونغ
يكتسب هذا الحوار أهمية خاصة لسببين، الأول أنه يجري بين شخصيتين كبيرتين هما مايك عازار ومايكل يونغ ، والثاني انه – الحوار – يناقش الوضع الاقتصادي المتدهور في لبنان، والمفاوضات الجارية بين الحكومة اللبنانية وصندوق النقد الدولي.
مايكل يونغ: هل التضخم المفرط نتيجة محتومة في لبنان، وما أسبابه؟
مايك عازار: لا شيء محتوم. التضخم المفرط هو ظاهرة نفسية. عندما تتوقع الشركات والأعمال التجارية حدوث زيادة سريعة في الأسعار، تعمد استباقياً إلى رفع أسعارها، فينفق المستهلكون أموالهم بسرعة أكبر، لأنهم يتوقعون أن تخسر قيمتها إذا انتظروا وقتاً أطول. ونصبح أمام حلقة مفرغة يصعب وقفها. وفي حالات كثيرة، اضطُرَّت البلدان التي تعاني من التضخم المفرط إلى تنفيذ عملية تُعرف بـ»إصلاح العملة»، أي سحب العملة القديمة من التداول واعتماد عملة جديدة بالكامل. عندما تُفقَد الثقة كلياً بعملة ما، من الصعب استعادتها.
تسجّل الأسعار زيادة في الوقت الحالي بسبب شح الدولار الأميركي، والارتفاع السريع في حجم الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية، وتراجع الثقة بالاقتصاد اللبناني وبالليرة. فالمواطنون يعمدون إلى سحب مبالغ نقدية بالليرة، بما في ذلك من حساباتهم بالدولار وفقاً لسعر صرف أعلى من السعر الرسمي، ويستخدمونها لشراء الدولار من أجل الحفاظ على القدرة الشرائية لمدّخراتهم. وهذا يؤدّي إلى انخفاض عرض الدولار في السوق بالتزامن مع زيادة سريعة في كميات الأوراق النقدية بالليرة اللبنانية.
ثمة مصدر آخر للطلب على الدولار. فقد توقّفت أعمالٌ وشركات كثيرة عن قبول الشيكات أو بطاقات الائتمان، وباتت تفضّل الحصول على القيمة نقداً بالدولار أو بالليرة. وهكذا يمكنها تحويل المبالغ التي تتقاضها بالليرة إلى الدولار لدى الصيارفة. ونظراً إلى حجم الاستيراد الكبير في لبنان، تحتاج معظم الأعمال إلى الدولارات لتسديد ثمن البضائع التي تستوردها. لذا، فيما يزداد الطلب على الدولار نسبةً إلى كمية العرض المتوافرة في السوق، تتراجع قيمة الليرة، ما يؤدّي إلى ارتفاع أسعار الواردات، وبالتالي الأسعار الاستهلاكية. في غضون ذلك، يحفّز تدهور قيمة الليرة وتراجع الثقة بالعملة المحلية الأشخاص إلى إنفاق أموالهم سريعاً. وهكذا، يتهافت المستهلكون الذين يمتلكون كتلة نقدية أكبر بالليرة اللبنانية على شراء السلع التي باتت أقلّ توافراً باطّراد، ما يولّد بدوره مزيداً من التضخم في الأسعار.
يونغ: هل يمكنكم أن تشرحوا لنا طبيعة الخلاف بين الحكومة والمصرف المركزي بشأن خسائر لبنان المالية؟ وما أهمية ذلك؟
عازار: لدى مصرف لبنان التزامات دولارية غير مموَّلة للقطاع المصرفي تفوق قيمتها 45 مليار دولار، أي إنه مدين للمصارف بمبلغ يفوق بـ45 مليار دولار ما يمتلكه من أصول بالدولار تُخصَّص لسداد هذه الديون على امتداد فترة زمنية معيّنة. بحسب المصرف المركزي، يمكن سداد هذه الالتزامات غير المموَّلة، أو الخسائر، مع مرور الوقت من خلال استخدام الأرباح المستقبلية التي تتحقق من طباعة العملة. وتعريفها هو الأرباح التي يحققها المصرف المركزي من طباعة الأوراق النقدية – أي الفارق بين القيمة الاسمية لهذه الأوراق وتكاليف الطباعة. ولكن من البديهي أن مصرف لبنان لايستطيع طباعة الدولار. وتبعاً لذلك، تعريفه لهذه الأرباح غريب. فمن وجهة نظر مصرف لبنان، يمكنه طباعة «دولارات محلية»، وهي بصورة أساسية دولارات رقمية عالقة في النظام المصرفي اللبناني. يمكن إنفاق هذه الدولارات داخل لبنان من خلال الشيكات أو بطاقات الائتمان، إنما لا يمكن تحويلها إلى الخارج أو سحبها في شكل أوراق نقدية بالدولار، بل يمكن سحبها في شكل أوراق نقدية بالليرة اللبنانية. يعتبر المصرف المركزي إذاً أن باستطاعته تسديد ديونه للمصارف من خلال هذه الدولارات المحلية «الرقمية» التي يولّدها من خلال أرباح طباعة العملة. من وجهة نظر اقتصادية، لا فرق بين هذه الدولارات المحلية والأوراق النقدية بالليرة.
أما الحكومة فتعتبر أنه يجب شطب جزء كبير من هذه الالتزامات غير المموَّلة لأن التعويض عن خسائر بهذا الحجم تُمثّل أكثر من 100 في المئة من إجمالي الناتج المحلي من خلال استخدام أرباح طباعة العملة، سيؤثّر بشكل كارثي على الكتلة النقدية وسعر الصرف والتضخم. ويتناغم موقف صندوق النقد الدولي مع هذه الرؤية.
يونغ: استقال مدير عام وزارة المالية، آلان بيفاني، من منصبه في 29 حزيران/يونيو. كيف تفسّرون استقالته؟
عازار: من الواضح أن بعض الأشخاص في الحكومة يشعرون باستياء شديد من فشلها في تطبيق الإصلاحات بسرعةٍ كافية، علماً بأن بيفاني كان شاهداً على هذا الفشل المتواصل طوال الأعوام العشرين التي أمضاها في الوزارة. وكان أيضاً أحد المهندسين الأساسيين لخطة الإنقاذ المالي التي أعلنت عنها الحكومة في 30 نيسان/أبريل الماضي. لكن الخطة تتهاوى الآن بسبب التعثّر في إطلاقها وتنفيذها، والضعف الشديد الذي تعانيه استراتيجية التواصل الحكومية، وغياب الانخراط مع الأطراف المعنيّة. وتلقى الخطة أيضاً معارضة من مجموعات نافذة في البلاد لأنها تهدّد المصالح الشخصية لتلك المجموعات. من السهل فهم الأسباب التي دفعت بيفاني إلى الاستقالة، نظراً إلى ظهور الحكومة في موقع العاجزة عن تطبيق أي إصلاحات في هذا الظرف الدقيق وعن الدفاع عن خطتها للإنقاذ المالي. لكنني لا أعرف لماذا اختار توقيت الاستقالة الآن وليس في وقتٍ سابق خلال الأعوام العشرين الماضية.
يونغ: سيتعيّن على الحكومة أن تتحرك في مرحلة معينة لوقف الانهيار النقدي. متى قد تبادر إلى ذلك وما الخطوات التي ينبغي عليها اتخاذها؟
عازار: لا أستطيع أن أتوقّع متى ستبادر الحكومة والسلطات النقدية إلى التحرك. أما الخطوات التي ينبغي على الحكومة القيام بها، فقد سئمنا من تكرارها. فعلى سبيل المثال، يجب عليها إعادة بناء الثقة بالاقتصاد لتشجيع الأشخاص على الاحتفاظ بالأموال التي يملكونها بالليرة اللبنانية، وزيادة تدفق الدولارات الأميركية إلى البلاد. ومن شأن الاتفاق على برنامج مع صندوق النقد الدولي أن يؤدّي إلى تحرير أموال بالدولار وإضفاء صدقية على خطة الإصلاح الحكومية. هذا فضلاً عن أن إعادة رسملة المصرف المركزي والقطاع المصرفي من خلال معالجة الالتزامات غير المموَّلة والخسائر في المنظومة سوف تتيح ضبط الزيادة في الكتلة النقدية وإعادة العمل بالوساطة المالية التي تُعتبَر ضرورية لنمو الاقتصاد. وإجراء إصلاحات سياسية سيظهر وجود استعداد حقيقي لمعالجة الأسباب الجذرية لهذه التحديات الاقتصادية، والتي تتمثّل، في العمق، بالاختلال الوظيفي السياسي والفساد. الهدف في نهاية المطاف هو تحقيق نمو اقتصادي حقيقي وشامل، إنما لا يمكن بلوغه من دون العمل على هذه الجبهات كافة.
ستكون السياسات التي ينبغي انتهاجها للحد من تضخم الأسعار مؤلمة في المدى القصير جدّاً. على سبيل المثال، قد يتعين على السلطات النقدية ضبط توسّع الكتلة النقدية – مثلاً، من خلال فرض قيود أكثر صرامة على السحوبات بالليرة أو عدم السماح بسحب مبالغ بالليرة من الحسابات الدولارية وفقاً لسعر صرف مرتفع. يجب توخّي الحذر الشديد في تطبيق هذه الإجراءات لأن من شانها أن تتسبب بتفاقم الفقر من خلال كبح الإنفاق. ونظراً إلى التأخير الطويل قبل الشروع في اتخاذ التدابير اللازمة لمواجهة هذه التحديات الاقتصادية، نجد أنفسنا للأسف في موقف يفرض علينا التفكير في مثل هذه الخيارات الصعبة.
يونغ: ما المعلومات المتوافرة لديكم بشأن محادثات لبنان مع صندوق النقد الدولي؟
عازار: لقد أشار صندوق النقد الدولي إلى بطء المحادثات الجارية بسبب الخلافات بين مختلف الأفرقاء اللبنانيين. يتسبب هذا الاختلال الوظيفي الداخلي، فضلاً عن عدم إبداء الحكومة أي نيّة لتطبيق إصلاحات، بتقويض المفاوضات مع الصندوق. كان بإمكان الحكومة القيام بخطوات كثيرة من أجل الاستعداد على نحوٍ أفضل لهذه المفاوضات وإظهار حسن نية لتطبيق الإصلاحات. لسنا بحاجة إلى انتظار برنامج من صندوق النقد الدولي كي نبدأ بتنفيذ الإصلاحات. وإذا أكملنا على هذا المنوال، سوف تنهار المحادثات. فهذه النافذة تضيق سريعاً أمام أعيننا.
يونغ: هل من المتوقع أن يُقدِم السياسيون فعلياً على عرقلة التوصل إلى خطة إنقاذية يقودها صندوق النقد الدولي، علماً بأن ذلك قد يؤدّي إلى انهيار كامل لهيكل السلطة الذي بنوه؟
عازار: يمكن المجادلة بأن برنامج صندوق النقد الدولي والإصلاحات المرتبطة به وآليات التدقيق المالي المطلوبة هي التي قد تؤدّي تحديداً إلى إضعاف هيكلية السلطة القائمة حالياً في لبنان.
عن مركز كارنيغي للشرق الاوسط
1-مايك عازار مستشار متخصص في التمويل بالدين، كان أستاذاً محاضراً في مادة الاقتصاد الدولي في كلية جونز هوبكينز للدراسات الدولية المتقدمة في واشنطن. يدوّن تعليقات عن الأزمة المالية في لبنان على تويتر تحت اسم @AzarsTweets.
2- مايكل يونغ مدير تحرير في مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، ومحرّر مدوّنة «ديوان» في كارنيغي المعنيّة بشؤون الشرق الأوسط.
كان يونغ سابقاً كاتباً ومحرّر صفحة الرأي في صحيفة دايلي ستار (The Daily Star) اللبنانية، وينشر راهناً مقالاً أسبوعيّاً في كلٍ من صحيفة ذا ناشونال (The National) الإماراتية، وفي الموقع الإلكتروني ناو ليبانون (Now Lebanon). يونغ أيضاً مؤلّف كتاب «أشباح ساحة الشهداء: رواية شاهد عيان عن نضال لبنان من أجل البقاء» (The Ghosts of Martyrs Square: An Eyewitness Account of Lebanon’s Life Struggle)، الذي أدرجته صحيفة وول ستريت جورنال (Wall Street Journal) ضمن قائمة الكتب العشرة الأبرز للعام 2010، وحاز على الجائزة الفضية في مسابقة «جائزة الكتاب للعام 2010» التي نظّمها معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى.
تخرّج يونغ من الجامعة الأميركية في بيروت، وأكمل دراساته العليا في كليّة الدراسات الدولية المتقدّمة في جامعة جونز هوبكينز.