هروبنا

الهروب من نفق مضيء
قصة هروب سجناء سياسيين من سجن الحلة المركزي عام 1967

تمكن الكاتب جاسم المطير في كتابه الهروب من جسر الحلة، أن يقدم للقراء حدثاً إنسانياً رائعاً بروح نضالية شبابية عالية الهمة ومسؤولة في آن واحد , حدث بدأ في منتصف عام 1967 وانتهى مع نهايات العام تقريباً.
كتاب المطير هذا ضم مذكراته عن ذلك الحدث البعيد وما رافقته من أحداث.
وفي هذا الكتاب ترك المطير للأخرين ممن جايلوا ذلك الوقت او عاشوا الحادثة، فسحة للحوار حين أكد على أن من يتحدث عن مسألة معينة سيراها من زاويته الخاصة , وبالتالي ترك المجال لمن يريد أن يدلي بدلوه في هذا الصدد , سواء بالإضافة أو إبداء الملاحظة أو التعديل. غير انه توخى في من يريد التحدث او الكتابة في هذا الأمر أن يكون ملماً به أو يسعى للإلمام به ومراجعة من عايش الحدث منذ البداية بهدف تجميع موزائيك اللوحة كاملة قبل البدء بالكتابة عنها. هكذا طلب جاسم ممن كتب عن الحدث حينذاك , وهكذا يفترض أن يكون.
ومن هنا تبادر ” الصباح الجديد ” الى نشر سلسلة حلقات من هذا الكتاب الشيق.

الحلقة 17

جاسم المطير

في اليوم التالي أعلن الضباط الخمسة إضرابهم عن الطعام مطالبين بإرسالهم إما إلى جبهة القتال وإما إعادتهم إلى سجن الحلة . إثر الإضراب قام العقيد الركن شفيق الدراجي مدير الاستخبارات العام بمقابلتهم ليخبرهم أن برقيتهم عرضت على وزير الدفاع ولم يوافق على طلبكم بل هو منزعج منها إذ أعلن صراحة بعد قراءتها انه يفضل دخول الجيش الإسرائيلي إلى بغداد ولا يفضل عودة الضباط الشيوعيين إلى الجيش كما أنه لا يقبل مشاركتكم في المعركة ضد إسرائيل .
هذا هو الواقع الذي تتحكم بموجبه السلطة الحاكمة في بغداد يمسهم حالا مس من الجنون كلما سمعوا أو واجهوا موضوعا عنوانه السجناء السياسيون في العراق تتقطع أنفاسهم حالما يسمعون مطلبا جماهيريا بإطلاق سراحهم ومخيلتهم لا تستوعبا قرارا اسمه العفو العام .
على تخوم هذه الأخبار الواردة من الخارج عن الضباط الخمسة ومقابلاتهم في وزارة الدفاع انتهت إلى الأبد ، داخل السجن ، بعض الموضوعات القائمة على الثقة بنظام عبد الرحمن محمد عارف أو على الظن بالعفو العام بعد أن قطع حاشيته العسكريون في مديرية الاستخبارات كل ظن .
أول المهتمين بهذه الأخبار كان فريقا التخطيط والتنفيذ لعملية الهرب وقد تم الانتفاع منها في تحفز أكبر في الفترة اللاحقة لتجاوز كل الصعوبات أثناء الحفر وصار بإمكان حسين ياسين وفاضل عباس وعقيل حبش وكمال ملكي أن يوقعوا عهدا بينهم وبين النفق بان لا يتوقفوا عن حفره مهما كانت الظروف ومهما كانت الصعاب وصارت آمالهم الرومانسية بنيل الحرية دافعا مثاليا وكان مظفر النواب يملك يمين الإعجاب والمودة في أي لقاء معهم أو مع أي فرد منهم كي يتم بلوغ الطريق المقدس بأقصى سرعة . لقد صار النفق لكل واحد من الحفارين مثل خطيبة او عشيقة او حبيبة لا يستطيع طوال الليل والنهار إلا التفكير بها .
كانت لقاءات الشاعر مظفر النواب أداة لسقي النبتة ورعاية الزارعين تمهيدا لرؤية السنبلة في العالم السفلي من ارض الصيدلية المحروثة بعزيمة قوية عطوفة بين أحباء بمستطاعهم تجديد طاقاتهم الإنسانية والنضالية والتدفق إلى خارج النفق ، إلى نسيج الحزب الشيوعي وسجاده ، بقوة أيضا .
انتهت حرب الخامس من حزيران بانتكاسة كبيرة لم يستعص على احد من السجناء معرفة أسبابها على الأقل في حدود معرفتنا للأوضاع السياسية التي سبقت العدوان وضعف توجه الأنظمة العربية نحو الاعتماد على القوى الجماهيرية التي حاول جمال عبد الناصر استنهاضها بإعلان صريح في استقالته المشهورة بأنه المسئول عن الانتكاسة الكبرى .
الشيء الذي يصعب علينا فهمه هو الوضع المتعلق بمستقبل العراق الذي يعتبر بنظر السجناء كتابا مغلقا تماما وقد جاءت الآن انتكاسة حزيران لتؤخره أكثر وأكثر وبالطبع وعى السجناء أثناء جدلهم المتواصل أن واقعة النكسة ذاتها لا تمس فقط شعوب مصر و سوريا و الأردن حسب بل تمتد إلى عمق الحياة العربية كلها والى عمق حياة الشعب العراقي وإلى حياتنا نحن السجناء السياسيين أيضا .
من هنا من هذه النقطة بالذات وجدنا أن ضرورة تحرير الوضع الفكري والسياسي من حالة اليأس المحتملة تفرض علينا معالجة سريعة لمجموعة غير قليلة من المشاكل التي تواجه عملية حفر النفق وفنونها خاصة وان إمكانيات فريق التنفيذ ما زالت محدودة والطريق إلى نور الحرية عبر النفق ما زال مشوشا وقد كان مظفر النواب يجد في فن النفق أداة متعة حقيقية بديلة يمارسها بكل وجه من وجوه حياته اليومية داخل السجن وفي علاقاته المتواصلة مع فريقي التنفيذ والتخطيط . أظنه صار يعتقد أن لمتعة العمل في النفق وظيفة ” شعرية ” لتخليص العقل السياسي من اليأس أو على الأقل أحداث ” هزة عنيفة ” في هذا الصدد داخل البلاد . وقد لاحظت تضاعف دور مظفر النواب بعد حلول شهور تموز حيث أصبحت عنده كل ساعة ذات قيمة مصيرية كما وجدته الآن أكثر انتماء للنفق في فائدته ووظيفته السياسية .
في 10 تموز 1967، وبعد مرور شهر واحد على هزيمة 5 حزيران ،كلف عبد الرحمن عارف ، طاهر يحيى بتأليف وزارة جديدة ، في جو الصراع والتناحر بين مختلف الفئات القومية ، وجاءت وزارته التي ضمت عناصر ناصرية وقومية مستقلة ، و أرادت أن تصور نفسها أمام الشعب العراقي أنها أكثر تجانساً وأكثر توافقاً من حكومتي عبد الرحمن البزاز وناجي طالب السابقتين . ظهرت حكومة طاهر يحي وهي معزولة تماما عن الشعب رغم انها حاولت أن تتخذ بعض الإجراءات الاقتصادية وخصوصا في ميدان السياسة النفطية مثل قرار بتحويل كامل حقوق الاستثمار في حقل الرميلة الشمالية ، الغنية بالنفط إلى شركة النفط الوطنية ، التي تملكها الدولة ( قرار آب 1967 ) ومثل منح شركة النفط الفرنسية ـ أيراب ـ التابعة للدولة الفرنسية ، عقداً للتنقيب عن النفط ، واستخراجه ، في مساحة تبلغ حوالي [ 11000] كم مربع ، وتقع في وسط وجنوب العراق ( قرار تشرين أول 1967 ) ومثل عقد اتفاقية يقدم بموجبها الاتحاد السوفيتي الخبرة ، والأجهزة ، والمعدات ، والمساعدة التقنية لحفر حقل الرميلة الشمالي ، للمساعدة غلى استخراج النفط وتسويقه . . رغم هذه الإجراءات إلا أن الحزب الشيوعي ظل متحفظا على الحكومة ولم يسرع إلى تأييد هذه الإجراءات كما حصل في أثناء وضع سياسة خط آب 1964 لأنه كان يعتقد أن حكومة طاهر يحيى لا تستطيع إصلاح الأوضاع الاقتصادية المتدهورة في البلاد ، واستمرت الشكاوى الشعبية العارمة من سوء تلك الحالة ، ومن تصرفات الضباط العسكريين المسيطرين على مرافق الدولة ، الذين كانوا يتدخلون في كل صغيرة وكبيرة من شؤون البلاد ، واشتكى تجار الشورجة من قيام العديد من أولئك الضباط بالمتاجرة بإجازات الاستيراد حتى وصل الأمر إلى أن أخذ الشعب يتندر بتلك الحكومة ، وأطلق الناس عليها لقب [ حكومة الفرهود ] أي حكومة النهب .
لم يكن صعبا على السجناء السياسيين معرفة حقيقة أن بيئة نضال الحزب الشيوعي العراقي صارت، الآن، أكثر تعقيدا. فالآمال المفتوحة التي كان ينتظرها الشيوعيون السجناء من حدوث تغيير جذري في النظام العراقي بعد أن أدانت اللجنة المركزية أكثر من مرة وفي أكثر من وثيقة حزبية سياسة خط آب اليميني الذي ترك صداه على آرائنا قد اصبحت غير واردة في ” عمل ثوري حاسم ” كما هو المنتظر . كنا نعتقد أن هذا العمل وحده قد يكون ضمانا أصيلا لسياسة ثورية بديلة خاصة وأن غالبية السجناء منطلقين تلقائيا بأفكار متجهة نحو اليسار دائما وهي تدعو إلى فعل ثوري حقيقي ينهض به الحزب الشيوعي نفسه لتغيير نظام الحكم .
كل الآمال غدت الآن شيئا من مصاعب الأمور ولم يعد السجناء على اندفاع كما كانوا خلال العامين الماضيين لإرسال مزيد من رسائلهم الانتقادية واقتراحاتهم إلى قيادة الحزب التي لم تثمر بنظر مرسليها أي تصور جديد بشأن التعديل العملي والفعلي لتصحيح نتائج سياسة خط آب وآثارها . لقد اختفت من السجن كل ملامح خط آب تقريبا وانتشرت الأفكار اليسارية أكثر وأكثر بين غالبية سجناء الحلة . كنا على قناعة أن غالبية السجناء في السجون السياسية الأخرى وخاصة نقرة السلمان هم أيضا يتعايشون مثلنا مع الأفكار اليسارية الأساسية وانطلقت معظم ثقافتنا في السجن من مفاهيم شمولية واضحة . وفي محاضرة عن اقتصاديات النفط العراقي ألقيتها في ندوة أقيمت في السجن الجديد كانت العلامة البارزة في استنتاجاتي هي الدعوة إلى تأميم النفط كوسيلة أساسية لاسترجاع الثروة النفطية . كما كانت طبيعة اغلب قصائد شعراء السجن مليئة بمضامين الدعوة إلى الثورة محاكاة مع الأبعاد الشعرية التي استهدفتها غالبية قصائد ونشاطات مظفر النواب في تلك الأيام .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة