ربما لا يدرك أولئك الأشخاص الذين أوقفوا جل أعمارهم على الثقافة، وانقطعوا عن أي نشاط آخر، أن نظرية الفن للفن، على ما فيها من إبهار، لم تعد تحكم العالم منذ زمن طويل. وأن ما قدموه من نتاج ذهني، أو ترفيهي، استخدم بشكل أو بآخر في خدمة مشروعات سياسية أو اقتصادية أو عسكرية أو غيرها. بل إنهم كانوا في الغالب أدوات فعالة في الصراعات الدولية التي اجتاحت هذا العالم، منذ أن بدأ يصغر ويتقزم في العصر الحديث، حتى لو لم يعوا ذلك لأول وهلة.
ففي كل أقطار الأرض كانت النخبة إلا في ما ندر لصيقة بالسلطة، مؤتمرة بأمرها، داعمة لتوجهاتها. ولم تكن بدون ذلك قادرة أن تمارس عملها بقوة، أو تؤدي دورها بإتقان. وفي خلال الحرب الباردة التي امتدت من نهاية الحرب العالمية الثانية حتى انهيار حائط برلين عام 1989 أظهر رموز الثقافة حماساً منقطع النظير في خدمة أحد طرفي النزاع. فقد كان عليهم في المعسكر الشرقي أن يتغنوا بالاشتراكية والنضال ضد الرأسمالية ويدعموا كفاح الشعوب الفقيرة. ولم يكن بوسع أي من هؤلاء أن يسبح ضد التيار ماخلا أولئك الذين فروا إلى الشاطئ الآخر، فقد كان الإحجام عن دعم القيم الاشتراكية خيانة عظمى. أما في المعسكر الغربي فقد كان كل شئ يوظف للإشادة بالقيم الغربية، مثل الروايات والقصص والسينما والدراما. وكانت الحرية المطلقة التي يتمتع بها الغربيون موضوعاً مفضلاً رسخ لدى الشعوب الأخرى الإيمان بالمجتمع الفاضل الذي بناه هؤلاء على أنقاض عالم فقير متخلف.
ورغم هذا كله فإن أجهزة المخابرات ألقت بثقلها وراء هذا النتاج الثقافي. وتدفقت الأموال التي قدمتها على هيأة جوائز ومهرجانات ومعارض باسم جمعيات غير ربحية على الكثير من رموز الثقافة. كما جرى دعم مشروعات كبرى للترجمة والنشر، وصدرت صحف ومجلات كثيرة، وأطلقت مبادرات ثقافية عديدة. وشجع أدباء ومفكرون ومؤرخون وفنانون على رفد هذه الحركة بالكتب والمحاضرات والأفلام والمهرجانات. وكانت مؤلفات أدباء فارين من المعسكر الاشتراكي أو معارضين له مثل بوريس باسترناك وألكسندر سلجنيتسن، تترجم إلى لغات العالم الأخرى، ويروج لها النقاد في كل مكان. وجرى احتضان كتاب هنود أو بنغاليين مثل سلمان رشدي وتسليمة نسرين وغيرهما لا لشئ إلا لمعارضتهم للقيم الآسيوية.
ولم تتوقف هذه الدوائر عن دعم مجموعات عربية وشرقية ثائرة على التقاليد الدينية والقومية بشتى الوسائل. فقد حظيت بالمؤازرة والتأييد من مؤسسات أجنبية، وشجعت على الكتابة والنشر وجرى تقديمها كرموز ثقافية إلى الملأ.
لقد خدم الكثير من رجال الثقافة في كوكبنا هذا مصالح سياسية واقتصادية معينة، وأضر العديد منهم بمجتمعاتهم حينما تحولوا بوعي أو بدون وعي إلى أدوات في صراع فكري محتدم وطويل. وسيظل وجود هؤلاء ضرورة قصوى لبقاء القوى الكبرى متمتعة بالنفوذ في أماكن حيوية من هذا العالم.
محمد زكي ابراهيم