علي حسن الفواز
البحث عن الجديد الشعري يظل مجالا لتجديد الاسئلة، وللتعاطي مع فكرة المغامرة الشعرية من منطلق قربها من الاسئلة، ومن حيازتها على رؤى يتجاوز من خلالها الشاعر عالمه القديم، وينفتح على أفقٍ يبرر المغامرة، ويبعث عن مواجهة النمط، باتجاه الثورة أو التمرد على معطف الأب الشعري..
لكن الجديد ليس يسيرا، برغم احتفاء المشهد الشعري بكثير من تمظهراته، وبكثير من « مغامريه» إذ تمارس اللغة سطوتها، والتاريخ سطوته، والنمط مهيمناته القديمة، وهو ما يُصيب بعض الشعراء بفوفيا المغامرة.
الفوبيا الشعرية العراقية لم تنفصل عن الفوبيا الثقافية والسياسية، إذ يمثل تلازمهما نوعا من القلق، والارتياب، فتلك الفوبيا ظلت تُشكل علامة فارقة في الجغرافيا المضطربة للمشهد الثقافي، مثلما أشرّت ازمة وعي عميقة في الوظيفة الثقافية، وازمة في وعي المثقف لاشكالات التجديد والتجاوز، والبحث عن هوية جديدة للقصيدة، ولقيم الاختلاف والتنوع في كتابتها.
هذه الازمات كثيرا ما انعكست على طبائع الانواع الثقافية، إذ تحولت الى ازمات في النظر الى اشكال الكتابة، والى مستوياتها الفنية والتركيبية والجمالية، وحتى على مستوى صناعتها للمعنى.
لقد وجد المثقفون ومنهم الشعراء انفسهم امام لعبة مواجهة قهرية وضاغطة بين الانسان الثقافي ومهيمناته، والذي انعكس عبر تشكيل مشهد شعري مضطرب، تسوده العصابية، ومهيمنات الايديولوجيا، ونزعات» شاعر المتاهة وشاعر الراية» كما سمّاهم فوزي كريم، حيث انقسم فيه الشعراء بوصفهم منتجي نصوص مهيمنة ومستبدة الى ثنائيات مسكونة بالرعب، شعراء ملكيون لا يؤمنون بتعدد الانواع، شعراء جمهوريون يؤمنون بالثورة والعسكرة حدّ الهذيان وكتابة القصيدة للجميع، شعراء ادلجات وشعراء لافتات، شعراء باشوات وشعراء من الرعية، شعراء يساريون وشعراء يمينيون، شعراء مؤمنون وشعراء ملحدون، شعراء اباء وشعراء ابناء، شعراء نوم وشعراء صحو، شعراء سيرك وفرجة وشعراء ستربتيز، شعراء كهنوت وشعراء ناسوت، شعراء سلطويون وشعراء مدنيون، شعراء حاضرون وشعراء منفيون، شعراء موظفون وشعراء متقاعدون، شعراء مدن وشعراء ارياف، شعراء جماعات وشعراء قبائل، شعراء عموميون جاهزون لكل المناسبات وشعراء مواسم، شعراء حوليون وشعراء يوميون، شعراء صحف و مقاهي، شعراء قدح ومدح وردح وشعراء مواعظ..
ثنائيات هذا الرعب الشعري والارهاب الشعري تملأ سوحنا الثقافية العربية ومواقعنا الانترنيتية، لهم شبكاتهم في الامتداد والتلصص واخراج الشعر من الخصخصة الثقافية(خصخصة التوهج) الى اسواق الاستعراض والعمومية، يراهنون على الجسد وحاجة الاسواق الفضائية والارضية الى شعريات البونوغرافيا، واطباق الاكلات السريعة وشعريات البضائع، ليس الفرق ان تكون من اليابان او بريطانيا او جزر المالديف او تايوان، المهم انها بضاعة قابلة للعرض والتصويت والاستهلاك ولو لمرة واحدة.
نعرف ان لا هناك توصيفا عالميا للإرهاب الثقافي ومصادر التلوث الشعري والمعرفي والموسيقي والبصري، كما لا توجد هناك سلطة عالمية تحدّ وتمنع من تعميم هذه الصناعة المضادة للذوق والاناقة والتربية والتعليم وتحسين النسل الثقافي، اذ ان موظفي الامم المتحدة والانتربول معنيون فقط بالجرائم الجنائية التي تخص الاشياء الموصوفة..
قراءة الجديد واختلاف الاسئلة
قراءة الجديد الشعري صار هوسا، مثلما صار قلقا، والبحث عن هوية دالة على هذا الجديد تطلبت التعاطي مع معايير نقدية وجمالية وتقانية مترجمة، أو هي مأخوذة من الغرب الملبوس بمهيمنات الحداثة فلسفيا وشعريا ونقديا، فضلا عن أن هذا الجديد الملتبس ظل رهين الاختلاف في الاسئلة التي اثارها النقد الجديد، وأن البحث عن توصيف شعري للجديد، أو مقاربة نقدية فاعلة له سقط في لعبة الاسئلة تلك.
فكيف هو التأسيس النقدي، وماهي ترسيمات القصيدة الجديدة؟ فهل هي تنحاز الى النثر فقط، أم الى متطلبات اللعب الشعري المفتوح؟
احسب أن هذه الاسئلة بدت وكأنها محاولات لتبرير أوهام الشعراء في كتابة قصيدتهم الجديدة، وتسويغا للنقاد لكي يؤسسوا مشغلا نقديا متورطا بمنجزات النقد الغربي ومناهجه ونظرياته.
مواجهة الحفاظ على النوع الشعري من الانقراض، والحدّ من اشاعة (موت الشعر) كانت هي العتبة الصعبة، رغم أن فكرة صيانة وتدمير الثقافي/الشعري تبدأ من تدمير البنى الحاكمة في الشعر وفي تاريخه، وفي مرجعيات اسئلته الثقافية، ليس لاعتبارات تضعه في مستوى هذه الخنثوية، بقدر ما ان هذا الثقافي الشعري والسردي والمعرفي والموسيقي والتشكيلي وحتى المؤسساتي هو الاكثر حاجة لتجديد معاطفه، والبحث عن حقول اقل تلغيما، مثلما هو اكثر دراية بحجم كارثة الثقافات «المغشوشة» والمهيمنة، بفعل السكون والركود وقلة الشجاعة، ومسؤولياتها عن تقليل نسبة الكولسترول في الجسد الثقافي، ورغبته العميقة في تحطيم الوقاية والمناعة لتقليل حظوظ مواجهة التغيير، والانخراط في لعبة الحداثة، بوصفها وعيا بالتغيير، وممارسة في مواجهة التاريخ والاستلاب، ومواجهة مفتوحة لذاكرة الهيمنة النصوصية التي تساكن الواقع، وتشتبك مع صراعه عبر مظاهره الاجتماعية والسياسية وليست الفنية.
اسئلة التغيير هي هواجس، أكثر منها صدمات، ورغبات أكثر منها معطيات، وهذا ما يجعل السؤال الشعري أكثر اشتباكا مع وعي الشاعر، مع قلقه، مع حساسيته إزاء التحول، ورؤياه إزاء ما يكتب، لاسيما وأن تاريخ الحساسية الشعرية قد بدأ من مغامرة الرواد، أو ما يمكن تسميته باندفاعهم الثقافي نحو تجديد كتابة القصيدة العربية، وهذا ما اعطى للسؤال الشعري زخما كبيرا، ومساحة واسعة، غمرها شعراء الستينيات في مرحلة لاحقة بأسئلة اكثر وقعا واكثر تجاوزا..
مفهوم الجديد ينطوي – لوحده- على تساؤلات كبيرة، وعلى حيرة من يبحث عن هوية لذلك الجديد، فاذا كانت قصيدة» الخمسينيات» بروادها قد آثرت النزوع الى الشعر الحر، والى البناء التفعيلي المغاير، فإن اسئلة الفكر ظلت لصق هذا التغيير، حدّ أن البعض منهم رهن التجديد في الكتابة بطبيعة الافكار الجديدة، لاسيما أفكار اليسار التي أخذت تشغل الشعراء بقوة، فضلا عن انفتاحهم على ما هو كوني ووجودي واسطوري ومثيولوجي، وهي انشغالات استدعت وجها آخر لفهم الحداثة ولتداول انماط كتابتها.
صور الشعراء المجددين تحولت الى صور للمغامرين، ليس لأنها تأسست على فكرة الاختلاف، بل لأنّ جمهورا واسعا بدأ يتفاعل مع القصيدة الجديدة، ومع مشروعها التحديثي، وهو ما وجد صداه عربيا، حينما بدأت المجلات والجماعات العربية تهتم بالمنجز الشعري العراقي الجديدة، ولعل نشر قصيدة « انشودة المطر» للشاعر بدر شاكر السياب في مجلة « الاداب البيروتية» عام 1953 كان اعلانا بولادة القصيدة وبالشاعر، والذي وجد صداه في مجلات أخرى، وجماعات أخرى، لاسيما «جماعة شعر» ومجلتهم التي تحمل ذات الاسم، وبهوية شعرائها المؤسسين « يوسف الخال، ادونيس، أنسي الحاج، شوقي ابي شقرا، خالدة سعيد» وهي جماعة ذهبت بالتجديد الى اقصاه، وبالتبشير بـ « قصيدة النثر» بوصفها فتحا شعريا جديدا، ومغامرة مفتوحة للعقل الشعري العربي، رغم أنّ هذه التجربة كانت صدى لأطروحات سوزان برنار التي ترجم ادونيس فصلا من كتابها « قصيدة النثر من بودلير الى ايامنا» ونشره في احد اعداد مجلة « شعر»
النثر ومغامرة الستينيات.
خيار التجديد كان نزوعا عاما، وتمردا على ما هو نمطي وتقليدي، فالمشروع الشعري الذي استغرقته اسئلة الحداثة اندفع الى نوع من الغرائبية، تلك التي استغرقت الواقع السياسي والثقافي، فكان الفشل والاحباط دعوة لرثاء هذا الواقع، وتحريضا على مواجهة أكثر صخبا، على مستوى الحياة والافكار، وعلى مستوى اللغة والكتابة، فضلا عن البحث عن تقانات لتسويغ مغامرة الكتابة الجديدة، عبر القناع والمفارقة والاسطرة والسحر والعبث، وكان لمجلة شعر وترجمات الشعر الفرنسي والاميركي أثرهما الكبير على اصطناع صور مغايرة لهذه التمثلات الشعرية الغرائبية، وأحسب أن البحث عن ما هو خبئ في النثر الشعر دافع لإثارة النقائض، وللتعبير عن ما تنطوي عليه « شعرية النثر» من حساسية شعرية، ومن رؤى وصور يمكن أن تتماهى مع تحولات الشاعر المضطربة، وتكشف عن انساق كتابية جديدة يتنفس من خلالها الشاعر هواءً مغايرا، ويتلذذ بتخيلات عاصفة تستدعي بنيات الدراما والحكي والحدث اليومي وكل ديناميات النثر كما سمّا صبحي حديدي.
هذا المنحى لم يكن بحثا عن استيلاد ايقاعات شعرية جديدة، بقدر ما كان تعبيرا عن التمرد، وتمثيلا للتأثّر بشعراء الموجات الجديدة في العالم، لاسيما شعراء « البيت» في امريكا، وشعراء النثر في فرنسا، فضلا عن النزوع لكسر ايهامات التلقي الشعري الذي فرضته قصيدة الشطرين، وقصيدة التفعيلة بايقاعتها المفتوحة.
الحديث عن « القصيدة الراهنة» كما يسميها عباس بيضون تستدعي الوقوف عند قصيدة النثر، ليس بوصفها انجاز مفارقا في الشعرية العربية، بل لأنها تسمح للشاعر بالتجاوز، وبأن يتخفف من معطف الاب البلاغي، وأن يكون أكثر مكرا في نسج علاقات داخل البنى الشعرية، وتبرير الخرق الشعري بأنه تعالٍ وبحث عن ماهو خبئ وغير مستعمل في اللغة الشعرية..
لكن لعبة المراجعة تفترض أمنا ثقافيا، لكي تبدو اللغة واضحة، ولكي لا يختبئ الشعراء خلف التاريخ أو الايديولوجيا أو العصاب، وغياب الوضوح يجعل الحديث عن هوية الشعر راهنا غير مجدية، لأننا سنتحدث عن قصيدة مخاتلة، وعن شعراء منافقين، أو هاربين من التاريخ الى اللغة، واللغة لوحدها غير آمنة إن لم يكن الشاعر يملك استعدادا للمغامرة وللمواجهة ولرمي التاريخ بالحجر..