الهروب من نفق مضيء
قصة هروب سجناء سياسيين من سجن الحلة المركزي عام 1967
تمكن الكاتب جاسم المطير في كتابه الهروب من جسر الحلة، أن يقدم للقراء حدثاً إنسانياً رائعاً بروح نضالية شبابية عالية الهمة ومسؤولة في آن واحد , حدث بدأ في منتصف عام 1967 وانتهى مع نهايات العام تقريباً.
كتاب المطير هذا ضم مذكراته عن ذلك الحدث البعيد وما رافقته من أحداث.
وفي هذا الكتاب ترك المطير للأخرين ممن جايلوا ذلك الوقت او عاشوا الحادثة، فسحة للحوار حين أكد على أن من يتحدث عن مسألة معينة سيراها من زاويته الخاصة , وبالتالي ترك المجال لمن يريد أن يدلي بدلوه في هذا الصدد , سواء بالإضافة أو إبداء الملاحظة أو التعديل. غير انه توخى في من يريد التحدث او الكتابة في هذا الأمر أن يكون ملماً به أو يسعى للإلمام به ومراجعة من عايش الحدث منذ البداية بهدف تجميع موزائيك اللوحة كاملة قبل البدء بالكتابة عنها. هكذا طلب جاسم ممن كتب عن الحدث حينذاك , وهكذا يفترض أن يكون.
ومن هنا تبادر ” الصباح الجديد ” الى نشر سلسلة حلقات من هذا الكتاب الشيق.
جاسم المطير
الحلقة 7
اليوم يمكن أن ننشغل بنقاش كبير وربما بأشغال جديدة تبعا لما سيصلنا من معلومات أو مواقف مع الأخبار القادمة إلينا من ” الخارج ” بواسطة الأهل القادمين إلى المواجهة .
كل واحد منا كان يكثر النظر إلى ساعة يده فموعد دخول المواجهين إلى السجن هو في الساعة التاسعة صباحا لكن الساعة تجاوزت الآن العاشرة والنصف ولا ندري ما هو سبب التأخير . كل واحد منا وقف بأشد حالات القلق .الكلمات يزداد ترددها في آذاننا عن احتمال منع المواجهة هذا اليوم أو أن السجانين قد عثروا على بعض الممنوعات أثناء تفتيش الأهل قبل الدخول . من يدري ربما عثروا على منشورات شيوعية أو ربما عثروا على رسالة قادمة من اللجنة المركزية جوابا على استفسار حسين سلطان حول الهرب من السجن . أحاسيس كثيرة .. هواجس كثيرة.. مشاعر متنوعة كثيرة ظلت تختبرنا خلال وقت طويل حاولنا فيه أن نحصل على أي خبر ينبئنا عن أسباب تأخير موعد المواجهة وقد ازداد قلقنا في التفكير المشوش بعد ان عرفنا ان السجان ( س ) غير موجود . وهذا السجان هو في الواقع صديق مخلص للسجناء السياسيين فهو الذي يزودنا بما نحتاج إليه من صحف ومجلات وسيكاير وبعض الأشرطة الكاسيت والدفاتر والأقلام وغيرها . كنا بأمس الحاجة إلى صديقنا ( س ) في ذلك الوقت لمعرفة أسباب الضغوط على السجناء وعلى المواجهين في آن واحد .. لكن قيل لنا أن ( س ) غير موجود .
ازداد قلقنا حين قيل لنا انه كان موجودا في الصباح لكنه ألان غير موجود . أن عيننا الراصدة في الإدارة غائبة فماذا نفعل ..؟
انتهت الحيرة . لقد دقت الساعة 12 ودخلت العائلات جميعها وقد بطل عجبنا حين عرفنا منهم السبب فأثناء التفتيش عثروا على كتاب جان بول سارتر كما عثروا على كتاب آخر يحمل أسم ديكارت . اتصلت إدارة السجن بمديرية السجون العامة للاستفسار عن سارتر وديكارت وقد جاء الخبر من بغداد بعد ساعتين أن سارتر ممنوع دخوله إلى السجن لأنه من أصدقاء الشيوعيين الفرنسيين بينما يمنع دخول ديكارت لمجهولية انتمائه السياسي ..!!
سررتُ كثيرا أنهم منعوا ديكارت وسارتر لكنهم لم يمنعوا سميرة محمود الصادر بحقها أكثر من أمر بإلقاء القبض عليها من مديرية أمن البصرة والناصرية وبغداد . ولا شك أنها تحمل اليوم بريدا حزبيا .
ها هي الآن أمامي سالمة من افتراس قروش السجانين ، وزال قلقي على الفور .
في المواجهة عرفنا أن الأخبار ليست مشرقة بالنسبة لنا نحن الذين نفكر بالهرب .فقد حملت رسالة من الحزب صحبة سميرة محمود توجيها بــ”التريث ” في عملية الهرب لأن الضغط العالمي على الحكومة قد يثمر بصدور عفو عام عن السجناء السياسيين وإطلاق سراحهم . هذا هو رأي الحزب .
بالفعل كانت هناك الكثير من أوامر إطلاق سراح السجناء بصورة فردية تأتي إلى سجننا وإلى السجون الأخرى لإطلاق سراح المعتقلين والمحتجزين في محاولة من الحكومة لخداع الرأي العام العراقي والعالمي المتزايد ضغطهما بالمطالبة بالعفو العام غير المشروط .
وكان خبر آخر من شقيقة حافظ رسن قد أنبانا بعدم وجود أي بيت لاستئجاره رغم أنها أغرت مالك احد البيوت الذي يبعد عن السجن حوالي 50 مترا وكان مؤجرا بعشرة دنانير لكنها دفعت 100 دينار ولم يوافق لأنه يريد تهديم البيت وإعادة بنائه .
ما العمل ..؟
ظل هذا السؤال يتردد بيننا ..
بيني وحافظ .
بين حافظ ومظفر .
بين حافظ وحسين ياسين .
بيننا ونصيف الحجاج .
بين حافظ وحسين سلطان .
وخلال المناقشات وتبادل الآراء تبلور موقفان واضحان :
الموقف الأول هو عدم التزامنا بتوجيه الحزب الذي اعتبرناه غير إلزامي والبدء بالبحث عن خطة نعتمد بها على أنفسنا في عملية الهرب . وقد تبلور هذا الرأي بحماس لدى حافظ رسن ومظفر النواب وجاسم المطير وقد أيدنا نصيف الحجاج دون تردد .
الموقف الثاني يمثله حسين سلطان وذلك بإصراره على انتظار الظروف وانتظار رأي الحزب اللاحق بعد أن أرسل وجهة نظره بالاعتراض عليه وكان مترددا بين طاعة توجيهات اللجنة المركزية ، والإلحاح الضاغط الذي مارسه حافظ رسن عليه إذ صار يلتقي به أكثر من ثلاث مرات يوميا لمناقشة مسألة التريث . من يعرف حافظ رسن أو من عمل معه يعرف عنه طبيعته في الإلحاح واللجاجة .كانت الحيرة واضحة على موقف حسين سلطان لكنها ظلت تختفي يوما بعد آخر كلما ازداد ضغط حافظ رسن عليه وبدأت لديه بعض الأفكار تلامس موقفنا وتبتعد عن ” التريث ” فقد حمل لنا حافظ رسن ذات يوم بعد اجتماع طويل مع حسين سلطان في بداية مايس – أيار 1967 خبرا مفرحا يقول أن حسين سلطان وافق على ما يلي :
ــ أنه لا يمانع وضع خطة الهرب ودراستها بدقة .
ــ وهو لا يمانع البدء بحفر النفق بعد وضع الخطة .
ــ لكن ” تنفيذ الهرب ” من وجهة نظر حسين سلطان يجب الحصول فيه على موافقة الحزب وهو لا يمانع من ممارسة مزيد من الضغط على اللجنة المركزية بوساطة الرسائل لإقناعها و للحصول على موافقتها .
تم الاتفاق إذن ، وقد عادت إلينا وحدة الرأي ووحدة الموقف ووحدة العمل فالجميع كانوا يطمحون لتحقيق هدف الالتحاق السريع بالحزب الشيوعي العراقي . والجميع كانوا مصنوعين من معدن نضالي واحد فليس في تصورهم أي انشقاق أو أية أفكار تتعلق بموقف من هذا النوع خارج بيئة الوحدة الحزبية رغم وجود خلافات عميقة مع سياسة خط آب والسياسة اللاحقة التي لم تعتمد على خطوات جدية لحل المشكلات الفكرية داخل التنظيمات الحزبية بما فيها تنظيمات السجون .
صار علينا التفكير بدراسة المبادرات والاقتراحات المطروحة حول اختيار ” مكان ” الحفر وتحديد أفضلية ” اتجاه ” الحفر . آراء كثيرة حول الهرب تم مناقشتها . بعضها تقليدي ، وبعضها مغاير ، وبعضها غير مألوف ، وبعضها يحمل الكثير من المغامرة ، لكنها جميعها قدمت للمتحاورين رسماً جديا ً لمسار واحد هو الاعتماد على الهرب من نفق تحت الأرض والابتعاد عن دراسة أية إمكانية للهرب من فوق الأرض بسبب سياقات الحراسات المشددة وبسبب الأطر والتجارب المتكدسة لدى السجانين وإدارة السجن التي تشكل جميعها اختبارات ذكية لحماية أبواب السجن وجدرانه من محاولات اختراقها من السجناء .
فكرة حفر النفق التي أثارتها عندنا التجربة الشيوعية البرازيلية استرعت انتباهنا إلى مجموعة من الأفكار المتعلقة بحفر نفق تحت ارض سجن الحلة وقد قادتنا تلك الأفكار شيئا فشيئا إلى مستويات دراسات تطبيقية لكل الاحتمالات ولكل الإمكانيات ولكل المواصفات المتاحة ، وقد نوقشت باستمرار في كل لقاء بين كل اثنين من مجموعة الأربعة ( مظفر النواب ونصيف الحجاج وحافظ رسن وجاسم المطير ) جميع الفروق الشاسعة أو المتقاربة بين تخطيطات عديدة لحفر النفق واتجاهاته . وقد استطاعت المناقشات أن تزيل الكثير من التفاوت في التخطيط ، ثم تركز الفصل الأخير على البحث في إمكانية تنفيذ الأفكار الخيالية في جغرافية النفق : هل نبدأ بمؤشر الحفر في نقطة ما في شمال السجن أم في نقطة ما في جنوب السجن ..؟
كانت النقطة المحددة في شمال السجن هي موقع ” الصيدلية ” .
أما النقطة المحددة في جنوب السجن فكانت هي موقع ” المطبخ ” العام .
هل من المطبخ أم من صيدلية السجن ..؟ أيهما الأسهل وأيهما القابل للتطبيق وأيهما الأبعد عن تفكير إدارة السجن .
ولكي نتوصل إلى القرار الحاسم لا بد من توفير مجموعة من البيانات الجغرافية المحيطة بالموقعين . بمعنى أن هناك حاجة إلى جواب على سؤال : إلى أين يؤدي النفق إذا حفر من داخل الصيدلية ..؟ والى أين يؤدي النفق إذا تم حفره من جهة المطبخ .