علي حسن الفواز*
فرضية سطوة الترجمة على الافكار تعززها استعمالات الترجمة في توسيع مديات الافكار، وفي التعرّف على الجديد منها، وهذا ما يُعطي للترجمة قوة فاعلة، وتأثيرا كبيرا على مستوى صياغة الافكار عبر تفاعلها أو تناصلها مع أفكار أخرى، أفكار تصنعها اللغات الحية، والثقافات الحية، وهي مجال ارتبط بالرُقي والتحديث، وببناء المدن ومنظومات المعرفة والسلطة والمدارس..
الترجمة في هذا السياق هي أفق، ومنظور لرؤية العالم بشكل اوسع، لاسيما إذا نظرنا الى العالم بوصفه مجالا لتوليد الافكار، أو لفرض السلطة عبر تلك الافكار، وهو ما حدث بالفعل، فالتبشير والاستعمار والاستشراق كانت في البدء مجالات لسانية وفكرية، وقد تمت ترجمتها ونقلها عبر لغات مهيمنة، لغات لها حكومات قوية وجيوش قوية و” كنائس قوية” ومنظومات معرفية قوية، وقد وجدت في العمل الترجمي عملا يفوق عمل الأنثروبولوجيا تماما، وربما يوازي عمل السياسة التي وجدت كثيرا من خطاباتها مجالها في التداول من خلال مؤسسات الترجمة والقوة والكنيسة والتبشير والاستشراق والاسفار والرحلات..
فماذا سيكون شكل العالم من دون مترجمين؟ وهل هناك لغة كونية أو استعمارية أو قومية أو حتى قدسية تكفي لتوحيد العالم، وإخضاع الأفكار والمعاني الى نمطٍ واحد من التواصل والتوصيل؟
هذه الاسئلة ليست فرضيات، ولا تخيّلات، بقدر ما أنّ اهميتها تنطلق من فقه الحاجة الى التواصل والفهم، وترميم الفجوات الثقافية العملية والمعرفية بين الشعوب، وبما يُعطي لفعل اللغة طاقتها وقوتها السيمائية في التواصل، وفي أنْ تكون هي المجال الوحيد الذي يُعبّرُ من خلاله الفلاسفة والثوار والغزاة والقديسون عن مواقفهم وأفكارهم، ولكي يُجاهروا بسلطتهم، وقوتهم في الاشهار والهيمنة، ولكي تُمارس اللغة وظيفتها أيضا في تحفيز آليات التفكير، وفي صياغة الوعي والقبول، وفي صناعة الأثر..
مشكلة التعريف بالأدب العربي ليست قضية ثقافية مجردة، وليست بعيدة عن أوهام السياسة، ولا عن خططها وأهدافها واستراتيجياتها، لأنّ كلّ ما يتعلق بتعطيل البرامج الترجمية، يرتبط بشكلٍ أو بآخر بضعف تلك الاستراتيجيات، ودورها في(أنسنة الثقافة والعلوم والمعارف) وفي التأكيد على أنّ (الثقافة صناعة) كما يقول أدرنو، ويمكن تأطير آليات استعمالها وتداولها، فهذه الامتيازات هي ما يُعطي للصناعات الثقافية أهميتها، وضروراتها، والتي تتطلب وجود مشاريع كبرى وسياسات كبرى، مثلما هو وجود الاسواق/ القرّاء/ المستهلكين، فضلا عن وجود الفاعلين الحقيقيين في صياغة برامج الاجتماع الثقافي، ومنهم المترجمين، حيث مشاركتهم المهمة في صياغة رأي عام ترجمي، أو العمل على اقامة عقد ثقافي مع الثقافات الانسانية الأخرى، لأنهم جزء منها، وأنّ مفهوم(القرية الكونية) الذي روّجت له العولمة يتطلب مشاركة حقيقية وقبولا وتفاعلا وتواصلا لغرض أنسنة العالم/ القرية..
العطالة، والتغييب في برامج ترجمات الثقافة العربية الى اللغات تؤشر مدى الضعف العميق في السياسات الثقافية، وفي تبنّي برامج حقيقية لتطوير وتوسيع مديات العمل الترجمي، فأية مقارنة ما بين ما نستهلكه من الترجمات العالمية مع ترجماتنا الى اللغة الأخرى سنكتشف (الهوّة) العميقة التي نقف عنها، وحتى حديثنا عن الجوائز العالمية مثل نوبل وال(مان بوكر) وغيرها سيصطدم بهذه العقدة اللسانية والسياسية، وبسياقات البرامج والآليات الحاكمة لهذه الجوائز..
ترجمات وسياسات..
قد يبدو السؤال فاجعا في تحديد الجهات المسؤولة عن ذلك، فهي لم تجد أيَّة مقاربات حقيقية لا في خطط وزارات الثقافة العربية، ولا حتى في برامج الاتحادات والمؤسسات الثقافية العربية الأخرى، وأنّ كلّ ما يجري من ترجمات محدودة لا يعدو أن يكون جهودا شخصية او من قبل مؤسسات معينة مثل مؤسسة الكلمة في دولة الامارات العربية، أو لأغراض بحثية، أو لنوايا تدخل في إطار الاستشراقيات العلمية، أو المشبوهة! حتى بتنا محاصرين بأوهام الآخر ومركزياته، وأنماط مهيمناته، ومناهجه ونظرياته واسماء أبطاله، ومدنه، وشوارعه، وعلمائه، ودور نشره، مثلما باتت نظرتنا للجوائز العالمية، ولمعارض الكتب، ولتداول مفاهيم وقيم الحداثة وغيرها محصورة وضيقة، وكأنها موضوعات تخصّ الآخر فقط، وأننا محضُّ متفرجين، أو مستهلكين.
الترجمة واوهام الانثربولوجيا
من الصعب جدا فصل الثقافة الترجمية عن المجال الأنثربولوجي، لاسيما على مستوى نظرة الآخر للعرب، ولعاداتهم وطقوسهم ولهجاتهم وأفكارهم وازيائهم ونظرتهم للجنس والمرأة والطعام، فكلّ هذا مثار شغفٍ دائم عند كثير من مستشرقي الأنثروبولوجيا الاوروبية والأميركية، وهو ما يدفع بعضهم للإصرار على اعادة ترجمات بعض الكتب التاريخية التي تخصّ المسكوت عنه في التراث او السيرة، وبعضه يتعلق بالأحداث العربية الجديدة، لاسيما(ثورات الربيع العربي) ليس بوصفها الثوري، بل لأنها أسهمت في تفجير بعض ذلك(المسكوت عنه) الجماعاتي والهوياتي والطائفي العربي، وحتى ترجمة بعض الروايات او الكتب الخاصة لا تشكّل اهمية كبرى إزاء استهلاكنا الكبير لما تُترجمه مؤسساتنا ودور نشرنا من الكتب الأجنبية.
وحين يثار فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل وترجمة كتبه لبعض اللغات الأخرى، أو فوز بعض الكتّاب المغاربة من الفرانكوفنيين بجوائز غونكور، أو حتى الحديث عن ما يتعلق بشخصيات متعولمة مثل ادورد سعيد أو امين معلوف، فالأمر يثير اشكالية أكثر تعقيدا، فحصول محفوظ على نوبل التي يستحقها طبعا، ليست قياسا، ولها ظروفها الخاصة، أو حتى لخصوصية الجهود الترجمية والسياسية والثقافية التي وقفت وراءها، لاسيما المزاج الأنثروبولوجي الغربي الذي وجد في روايات محفوظ عالما خاصا للتعرّف على المكان والشخصيات المصرية، وعلى طبيعة التحولات الاجتماعية والسياسية والطبقية التي عاشتها الشخصية المصرية منذ نهاية القرن التاسع عشر، فضلا عن ما تمور به رواياته من سرائر تمس المقدس واليومي والجندري، ولمواقفه من هوية الدولة الجمهورية في مصر، التي تأسست معها ظاهرة عبد الناصر المكروهة من قبل المؤسسات السياسية والاستشراقية الغربية..
وحتى الحديث عن ظاهرة إدوارد سعيد الانكلوفونية، وعن الظاهرة المغاربية الفرنكوفية العربية، لا يعكس وجود عمل مؤسساتي حقيقي في مقاربة موضوع ترجمة الادب العربية الى الآداب الأخرى، لأن هذه الظواهر هي اساسا جزء من المشروع الثقافي الغربي، ولا علاقة لها بالمشروعات الثقافية العربية، وبطبيعة الخيارات والمواقف التي لها علاقة بالترجمة، وبتعريف القارئ الاجنبي بالأدبيات العربية التاريخية والجديدة..
المترجم ليس خائنا..
السؤال عن خيانة المترجم ليس سؤالا أمينا، ولا مبررا لاتهام الترجمات بالمروق والتلصص، وأحسب أنّ مَنْ روّج لهذه اليافطة لا يعاني من ضيق ذات اليد المعرفية، ولم تحاصره اللغات الأخرى بما يشبه الغزو، والترهيب، حدّ استعماره واغترابه إزاء وجوده وهويته، وجنوسته.
ترجمة الآداب العربية للآخر ظلت تعيش وهم السياق الخائن، وكأنّ لعبة الحروب والغزوات فقدت كل توصيفاتها العسكرية والسياسية، وانحشرت في خانة اللعبة اللسانية، وقدرة هذه اللعبة على أنْ تكون ممارسة في المحو والتغييب والاقصاء، حتى باتت اغلب النزعات الأيديولوجية (القومية) منها، أو دوغما اليسار تمارس شكوكها الاخلاقية إزاء الآخر، وتعطيل أي أفق للحوار وتحت يافطات شتى، وهو ما وجدته حكومات الاستبداد العربي فرصة لتخوين المثقف، أو عزله، ولتأطير الترجمات بنوع من التضليل، والتخويف، ومجاراة الشعار الغرائبي حول الخيانة الترجمية، وباتجاه خلق نوع من الفوبيا بأنّ الغرب سيسرقنا من خلال اللغة، وأنّ مقدسنا، وإرثنا وقيمنا سيكونون عرضة للنهب والضياع من قبل المترجمين الخونة..
كما أن وهم الخيانة هذا وجد في غياب البرامج الدولتية مجالا آخر للعطالة، فضلا عن غياب أي تخطيط لوضع ترجمة الادب العربي في سياق البناء الحضاري والثقافي البيني، ولم تجد وزارات الخارجية العربية أيّ جهد لتنظيم سياسية ثقافية كاملة مع الآخر، وكأنّ مفهوم المصالح والأطر الدبلوماسية والسياسية لا شأن لها إلّا بالعلاقات الدولية في سياقها السياسي فقط، فضلا عن وزارات التعليم العالي تضع ممثليها في سفارات الدول الاجنبية لممارسة وظيفة متابعة شؤون الطلبة الدارسين في هذا البلد أو ذاك، ولا شأن لها بصياغة علاقات تخصّ المصالح الثقافية، واقامة البرامج الترجمية المشتركة، وبما يسمح بصياغة تقاليد واسعة لهذه العلاقات، وفتح افاق جديدة في سياق حوار الثقافات، وعلى أسس متكافئة، وبغير ذلك لا تملك أية جهة مدنية أو رسمية قدرة على تنشيط الممارسة الترجمية التي تتطلب آليات ودعم مادي ولوجستي من الصعب أنْ نجده في مؤسساتنا المدنية، لاسيما وأنّ السلطة العربية هي سلطة حيازة شاملة للقرار والثروة والأمن، وهو ما يعني امتلاكها الادوات والوسائط التي من شأنها تبني مثل هكذا مشاريع استراتيجية..