التعيس في خاتمة أيام نكده

صادق الأزرقي

“أیها الألم إن الزمن یُبلي الحیاة
والعدوّ الغامض الذي ینهش قلوبنا،
على دمنا المسفوح ینمو ویقوى”
بودلير
كوّر الغانم باطن كفه المتغضنة، متحسساً نعومة ما تبقى من زجاج ردهة مدينة الطب، محاولاً التماس برودة تعوض عن اختناق غرفته المواجهة لباحة العناية المركزة، المهيأة لروائح الكافور؛ اختنق بها مع ظلام الغرفة الدامس، وخط مشي الممرضات، الفارات عن صدى آلامه المتراصة؛ فلقد أبحر في ألم وريده الذي أدمته حقنة المغذي، فتلونت انثناءة ساعده بخضرة الدم، الذي تغاضت الممرضة عن مسحه؛ فسقطت قطرات منه على أغاني أبي الفرج الأصفهاني، الكتاب المركون على زاوية فراش السرير غير المغسول.
في حلكة الليل البهيم، الآن وعاجلاً و آجلاً، يتسنى لبعض مشاعر الخيبة، أن تتسلل الى روحك، في محاولة لوأد أي بارقة أمل قد تتبقى لديك؛ سيما إذا كنت مطوقاً بعتمة الغرف وبخشونة الممرضات، اللواتي يبدو انهن تطبعن على قبول فكرة خسران أنوثتهن، أمام زحمة الأعضاء الرجالية المبتورة والدماء التي تملأ الممرات؛ اللواتي توارثن منذ نعومة أظفارهن مصائد الخراب، حين يثبت أقدامه وتنحسر أي بارقة أمل.
منذ فجر هذا اليوم المثلم، شعرت بالفزع، ووخز الضمير، لقناعتي ان مقهى النعيم سرعان ما سيهوي على رؤوس مرتاديه؛ يطمرهم في مهاوي التراب والطابوق المنهك، سيتردد رجال الإطفاء كثيراً لإسعاف ما تبقى؛ لأنهم سيطمرون بدورهم، وقد أصبح أنا عاجزاً في أحسن الأحوال، أو يطير رأسي، أو تفقأ معدتي، أو ان تقذف رئتي الى مزبلة قريبة لم ترفع منذ دهر؛ فسارعت للخروج بمجرد الفراغ من شرب استكان الشاي.
وهكذا كان، حين انتزعوا غانم الغانم من بقايا مقهاه الكالح، مثقلاً حتى هامته بدقائق التراب المحترق، مثل دمية جبسية أخرجوها للتو من قالب الصب.
لم تعد تروعنا أهراء هتلر، وصوامع روائح ثومه وتفاحه المهلك، ظنها المحاربون عبقاً، أطاحت بألوف أحلامهم؛ لقد أمست حربك أشتاتاً، تقبع في ثنايا أكوام القمامة، التي تسربت الى أرواح أطفالك وفي زوايا حيطان المباكي، تناسلت خرابات بغداد فتفوقت على صراعات هيكل سليمان، لم يعد يحفل بك، و بحديقة بيت مالكك الخربة، مثل روحك، هشيم اثر هشيم اثر هشيم، وبقايا دجاج نافق؛ تموت الدجاجة وعينها على المزبلة، وترمى أجساد قتلانا في وسط أكوامها، بمثل سهولة الفسحة بين دخان السيجارة الأخير ومسار رميها، قد يمسي حائطك محطماً بدوره، فالزارعون تنوعوا في تجذير اخضرار رمانات التفخيخ وعجائب المفجورات؛ كان على الجميع أن يتلفت ملياً قبل حفلات النحر، فقد يكون بعض جيرانك يتهيؤون الآن لأيام موتك و حيازة بقية أنفاسك “يا قارئاً كتابي ابك على شبابي بالأمس كنت حياً واليوم تحت التراب”، فسرعان ما تبتدئ حفلات الاكفان.
قطعوا جذر أحيائنا باسمنتهم المصفح، مثلما قطعوا أوصال موتانا، ففتحنا سجلاتنا لحصر القتلى من شغيلة المسطر المنتهكين. ضعنا فضيعونا ضاعت طيوب ريفدور، لم تعد تفخر بها رقاب الشباب البضة “حلاقة هاني اطفر وتلكاني”. تبحث الـممرضة عن ضحاياها في جيوب جداتنا المتوجعات من سقم أجسادهن، وآلام قلوبهن المفطورة على أولادهن و أحفادهن وعلى أنفسهن؛ فتقطع قناني المغذي عن زنودهن المزرقة، بحثاً عن بغيتها دنانير حلالاً محللاً، وتشرع أخرى بخطف الولدان، تحجب الأدوية المجانية عن الراقدين وتباع لهم بأضعاف أسعارها، تُشترى الأسرّة والأوكسجين، مجداً للتعاسة!
ربض الغانم على حافة السرير، متطلعاً من خلال الزجاج الذي تفننوا في تزيينه بلصقة جونسون؛ اشتروها من أغراض الجنود الأميركيين في سوق مريدي، ثلاثة بـ 250 ديناراً، وسارعوا الى الصاق ما تبقى من زجاج الشبابيك؛ خشية أن يطيح بهم هشيمها، ألصق الغانم عينيه بزجاج الغرفة وهو يتطلع الى الاشباح البشرية التي تراكضت عبر الجسر عند حافة مدينة الطب.
كان مشهد الغروب مدخناً مزرقاً، أضفت عليه أفواه مجاري المياه الثقيلة والنفايات الطبية أساها، تفرغ أفواهها على حافة مياه دجلة؛ لم يعد الماء يشطف أدرانها، فلقد غص بجروفه المتهاوية، تنحني على نكاية المزابل، ومراسي الخواء المطبق؛ أي شكيمة أوحت لنا بهزيمتنا المستدامة.
هزأ المتفقهون من بداهتنا، التي ستجعلنا سخرية أقوام الفايكنج، وفرق الدنمارك والنورمان المتوحشة، وتلمسوا جوازات سفرهم، أجازت لهم ندرتنا، ونقاء سريرتنا؛ يفترسونها ملياً في بحر فقههم أبو لسان الطويل، غير عابئين بنواح “ياس خضر”، ضرباً من شاعريات ليل البنفسج، نهباً لهزائم ماكرة غير مجدية، لن تليق بهم؛ وسيهلكوننا بها سادرين في سخريتهم، أوقعونا بالضربة القاضية. صرخ العامة “محمد علي .. محمد علي”، فأسقط “كلاي” خصومه بالقاضيات، وأقام مجده الشخصي؛ لن يعرف العوز، وطفق السود يرسخون حقوقهم المدنية؛ فأسقطنا المبجلون، في أتون فقههم أبو لسان الطويل.
قلص الغانم عينيه و أدرك انها ﻻ بد أن تكون نهايته التي انتظرها و توقعها في أية لحظة….
تكاثرت أصوات الرصاص، وبدأت تقترب من مبنى مدينة الطب، رأى أطباء يفرون، انقطع الضوء المنبعث من بعض الغرف، و أقعت إحدى الممرضات تبكي ملصقة جسدها بالحائط .. رأى مرضى يتغلبون على آلامهم ويفرون راكضين بعكازاتهم، وشاهد في خضم الظلام بياض أرجل بعضهم المجبّرة، هابطين من سلالم الطوابق بخفة؛ صرخ أحدهم حين مر بغرفته داعياً إياه إلى الفرار بجلده “خلص نفسك اقتحموا البناية!” لم يكترث، فلقد رأى مثل ذلك كثيراً في الشوارع المحيطة بمقهى النعيم، وهو يلبي طلبات الزبائن، وكثيراً ما اقتحمت أفواج الناس مقهاه، هرباً من قتال أو انفجار، أملاً بانجلاء الموقف أو النجاة من تفجير آخر؛ ظل جامداً في سريره, لا يعرف سر تبلد مشاعره، و البسمة التي ارتسمت على زاوية فمه، التي لا تتلاءم مع الخطر المحدق …
وقع أقدام غير منتظمة متلاحقة ترتقي السلالم، سمع صراخاً وضجيجاً، وأنصت إلى قعقعة أسلحة؛ فُتحت أبواب، وكُسر زجاج، ورأى مسلحين بملابس متنوعة يتراكضون في الممر، ويمرون بعجلة من أمام باب الغرفة المفتوح؛ كان قد مدد جسده باسترخاء على السرير الطبي، ورفع مسند ظهره ليرى المشهد بوضوح، كانت أشباح الصور تترى أمام عينيه بقوة والجو المدخن يكتم على أنفاسه، ومرق في ذهنه طيف ذكرى في بلد أوروبي سافر اليه؛ حين صدمته سيارة ففقد الوعي جزئياً، وكان يفتح عينيه أحياناً، على منظر الممرضات يتراكضن رافعات قناني المغذي بأيديهن، ورأى أطباء يجرون لإسعافه وفحص نبضه باهتمام ..

كان قلقاً على الممرضة التي أقعت تبكي بظل الحائط؛ اقتحم غرفته رجلان لم يتبين ملامحهما بفعل الظلام، أضاء أحدهما مصباحاً يدوياً بوجهه، وقال بعد صمت “حجي لتخاف!”، وفي الحقيقة فانه لم يك خائفاً، ولكنه كان منزعجاً من الإسهال الذي ألم به منذ دقائق؛ أخبراه انهما بحاجة الى السرير ولن يؤذوه، فامتنع عن مطاوعتهم “تتركوني أنام على الأرض؟!”، مرت لحظة صمت التفت بعدها الرجلان أحدهما إلى الآخر، ويبدو إنهما قررا شيئاً.
ـ حسناً سريرك لك.
وعندما أغلقوا الباب نصحوه أن يقول لمن يفتح الباب ان القائد سمح له بالبقاء في الغرفة. أمال مسند السرير باستقامة جسده، واسترخى أكثر، كان يشم رائحة الدخان القوية، وتتناهى إلى سمعه أصوات أسرّة ومخازن حديدية تجر على السلالم، و دوي اطلاقات متقطعة وحشرجات؛ فايقن انها لحظة نهايته التي توقعها كل يوم، فأشعل سيجارة خلافاً لتعليمات الطبيب، و سحب نفساً عميقاً من دخانها بانتشاء، أغمض عينيه، وتمدد باسترخاء.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة