فلم «آدم»، الحائز على برونزية الجونة الثالثة..
د. أمــل الجمل
امرأة شابة تُنجب طفلاً لكنها ترفض أن تلمسه، أو أن تنظر إليه، أو أن يلمس ثديها لتُرضعه، وكأنها لا تُريد أن تتورط في عالمه، كأنها تُجمد عواطفها في ثلاجة الخوف. امرأة شابة مملوءة بالكرم، بالعطاء، والمرح لكنها فجأة تتحول إلى كتلة صخرية معجونة بالحزن المكتوم والقسوة. هنا، تتعمد المخرجة تقديم المرأة الشابة في لقطات قريبة جدا للوجه لا توحي بالقسوة بقدر ما توحي بأنها مثل الفريسة المُحاصرة. في حين صراخ الطفل الوليد يتزايد بشكل مؤلم، لكنه لايفتح أي ثغرة في باب الرحمة بقلبها، في حين يتحول في الوقت ذاته إلي مطرقة تدق على آذاننا فتُذكرنا بوضعية المرأة في المغرب كما في بعض الدول العربية. ثم في لحظة محددة نرى الدموع متحجـرة في المقلتيــن بينما تغني له: «نام يا صغيري.. بكرا تكبـر وتطيـر» وتبـدأ فـي كتم أنفاسـه وأنفاسنـا معـه.
المشهد السابق من«آدم» بتوقيع الممثلة المغربية الموهوبة مريم توزاني هو أول تجاربها الإخراجية – كتبت له السيناريو بالمشاركة مع زوجها المخرج نبيل عيوش الذي قام بإنتاجه أيضاً – ورُشح الفيلم ليُمثل بلده في مسابقة الأوسكار ٢٠٢٠.
بدأ الفيلم عرضه العالمي الأول من مهرجان كان السينمائي منتصف مايو الماضي، بعدها عُرض بمهرجان كارلوفي فاري، ثم جاء عرضه العربي والشرق أوسطي الأول في مهرجان الجونة السينمائي – بدورته الثالثة الممتدة من ١٩ إلى ٢٧ سبتمبر الماضي – ونجح الفيلم في أن يقتنص جائزة نجمة الجونة البرونزية للفيلم الروائي الطويل، وتتضمن الجائزة نجمة الجونة وشهادة تقدير ومبلغا ماليا قيمته ١٥ ألف دولار أميركي.
إنه فيلم سينمائي عن نتائج الاختيارات وعواقب الأخطاء ومعاناة المرأة بجميع أطيافها في بعض مجتمعاتنا العربية، من خلال امرأتين؛ الأولى تقمع أنوثتها، والآخرى تقهر أمومتها. إنه فيلم عن التضامن الإنساني النسائي، عن القوقعة الصلبة التي تحتمي خلفها بعض النساء، والتي قد تبدو عنيفة وقاسية، بينها هى مجرد قشور هشة يحاولن من خلالها حماية أنفسهن من المجتمع الذي لا يرحم، وتوابع ذلك من الخسائر النفسية الجسيمة. إنه تجربة إنسانية عن المساندة التي تنزع تلك القوقعة الصخرية وتٌظهر جوهرها الإنساني الرحيم المفعم بالحياة. إنه فيلم عن رحلة عبور اثنتين من النساء من ضفة الاستسلام لقناعات وتقاليد المجتمع وموروثه الثقافي إلى شاطيء سعادتهما الداخلية، واستعادة هويتهما.
يبدأ السيناريو من حالة المرأة الشابة الريفية «سامية» وهى تطرق الأبواب، واحداً تلو الآخر، بحثاً عن عمل يقيها شر السؤال والحاجة في المدينة القديمة بالدار البيضاء. تحاول مع محل كوافيرة حيث المهنة التي تُجيدها نفسيا وشكلياً، لكن صاحبة المحل ترفض عندما تطلب «سامية» المبيت بالمحل، ثم تحاول المرأة الشابة أن تعمل خادمة في البيوت مقابل أن تجد كسرة خبز ومأوى لها، لكن الجميع يُوصد الأبواب في وجهها، إلى أن تصل إلي عبلة سيدة المدينة – تقوم بدورها لبني أزبال – وهى امرأة وحيدة تكسب رزقها من إعداد الفطائر وبيعها، وتعيش مع ابنتها وردة ذات الثماني سنوات، حيث نرى حياتهما جافة صارمة خالية من الابتسام أو حتى التلامس العاطفي المعتاد بين أم وطفلتها، لكن عندما تتواجد سامية في محيطهما نرى وجهاً آخر للطفلة، نراها تضحك، تتحدث، تتجاوب مع سامية، وتلعب معها بشقاوة بالغة، وتحكي لها عن أمها. في وجود سامية تبدو الطفلة وكأنها عادت إلى الحياة. ربما الأدق، أننا نشعر وكأن الحياة دبت في البيت بأكمله، ماديـاً ومعنوياً.
ترفض عبلة استضافة أو تشغيل سامية، لكن عندما تسمع أصوات الشباب السكاري ومشاحناتهم ليلا بينما سامية تحتمي بظهرها على جدار أحد البيوت بالشارع ذاته، تهبط عبلة وتقرر أن تأويها حتيى الصباح، لكنها تشترط عليها ألا تلمس أي شيء في البيت، ولا أن تساعدها، وكأنها أيضاً تغلق أي باب لمزيد من التورط العاطفي مع المرأة الشابة الحامل في شهورها الأخيرة، وكأنها تريد أن تظل تحمي قوقعتها وحياتها من دون أن يدخل إليها غريب.
لكن أمرين سيُحطمان قرارات عبلة المتجهمة دوما برغم ملامحها الجميلة؛ أولهما عزة نفس سامية وشخصيتها الآبية التي ترفض أن تعيش عالة على الآخرين في حين يمكنها أن تقوم بأشياء بديعة وبرغم أنها بسيطة لكنها تُضفي البهجة على الحياة. الأمر الثاني؛ وجود الطفلة وردة التي ستُجَسر العلاقة بينهما، وهى أيضاً التي ستمنح سامية مفتاحاً لشخصية والدتها، عندما تخبرها عن قصة الحب بين والديها، وعن ولع الأم بصوت وغناء وردة الجزائرية، خصوصاً أغنية «أنا بأتونس بيك وأنت معايا، وبألاقي في قربك دنيايا» لكن الحياة انقلبت إلى ما يُشبه الحداد الدائم بعد وفاة الأب والحبيب، ولم تنجح محاولات الرجال في الاقتران بها، حتى سليمان الرجل الذي يُورد لها الدقيق والسكر والمُتيم بها. لكن مع وجود سامية ستختلف الأمور، ستسعى بكل ما أوتيت من قوة أن تُعيد للمرأة المتجهمة العابسة ضحكاتها وابتسامتها، وأن تُحيى فيها مجددا رغبات الحب للحياة والتفكير في وجود شريك لها، لكن السؤال الصعب لن يكون: هل تنجح سامية، وإنما، هل ستتمكن عبلة من تغيير قرار سامية المأسوي وإعادة الحياة إليها هي ايضا؟!
التأرجح بين الرفض والقبول، بين الاستسلام والمقاومة، بين حياة العمل الجاد وبهجة الحياة، بين القبول ببقاء الطفل الذي ستمنحه اسم آدم وبين محاولات التخلي عنه لأحد الملاجئ، بين حياة عبلة الجافة أو القبول بوجود شريك في حياتها. هذا التأرجح يُفجره تطور العلاقة بين المرأتين، وما يلحق بها من تغيرات. ويُفَّعل هذا عدة عوامل منها المأزق المشترك الذي يربط بينهما، ثم يقودهما إلي لحظات من المواجهة المتبادلة التي تساعد كل شخصية على اجتياز محنتها بشكل متفاوت، فإذا كانت شخصية سامية تعبيرا عن وضعية المرأة في مجتمع لا يقبل بالأطفال مجهولي النسب، تعبير عن العار الأكبر الذي يلحق بالمرأة عندما تُنجب طفلاً خارج إطار الزواج. فإن عبلة قد دفنت أنوثتها لتُواصل تعليم ابنتها وتحميها من نظرة المجتمع لامرأة أرمل تعيش وحيدة. وبرغم أن نهاية الفيلم قد تبدو مفتوحة، أو غير محسومة تماماً، لكنها تمنحنا الأمل في الغد.
«آدم» الفيلم والعنوان ذو الدلالة القوية، فلا أعتقد أن اختيار المخرجة وكاتبا السيناريو اسم «آدم» من فراغ أو من قبيل المصادفة. إنه اختيار متعمد، إشارة إلي بدء الكون المختلف، وميلاد عالم جديد تتبدل فيه حياة النساء والنظرة إليهن. وفي الوقت ذاته يُذكرنا بملمح من شخصية نورا بمسرحية «بيت الدمية» للكاتب النرويجي الشهير هنريك إبسن، خصوصا في المشهد الختامي عندما ترتدي سامية ملابسها وتحمل أشياءها وطفلها وتقرر الخروج مبكرا لمصيرها، وإن كنا كمشاهدين لا نعرف تحديداً ماذا ستفعل، لكن يكفينا نظرة عيونها إلى عبلة وطفلتها وردة حيث نراهما لأول مرة تنامان في حضن بعضهما كأنهما تحتميان ببعضهما البعض، مشهد يملأ عيوننا بالحب، وربما قلبها بالرحمة قبل أن تخرج وتغلق الباب من خلفها.
إن فيلم «آدم» – البالغ زمنه السينمائي ١٤٠ دقيقة – هو عمل سينمائي رقيق وجميل عن قدرة المرأة على أن تعيش من دون رجل، هكذا تُؤكد تصرفات الشخصيات بوضوح، بأنها لن تموت في غيابه، وأن الحياة سوف تستمر، لكنها ستكون حياة خالية من نبض الحياة.