راغورام راجان
شيكاجو – يوم آخر، وهجوم آخر على التجارة. لماذا يؤدي كل نزاع الآن -سواء على الملكية الفكرية، أو الهجرة، أو الضرر البيئي، أو تعويضات الحرب -إلى خلق تهديدات جديدة للتجارة؟
خلال معظم القرن الماضي، كانت الولايات المتحدة تدير وتحمي النظام التجاري القائم على القواعد، الذي أنشأته في نهاية الحرب العالمية الثانية. تطلب هذا النظام خروجا جوهريا عن بيئة الشك المتبادل بين القوى المتنافسة التي سادت في فترات ما قبل الحرب. وحثت الولايات المتحدة جميع القوى على تبني رؤية مفادها أن النمو والتنمية لبلد واحد من شأنهما أن يعودا بالفائدة على جميع البلدان من خلال زيادة التجارة والاستثمار.
في ظل النظام الجديد، وُضعت قواعد لتقييد السلوك الأناني والتهديدات القسرية من جانب الأقوياء اقتصاديا. وكانت الولايات المتحدة بمثابة قوة مهيمنة محبة للخير، حيث عملت على تأنيب أولئك الذين يتصرفون بسوء نية بين الحين والآخر. وفي نفس الوقت، عملت مؤسسات النظام المتعددة الأطراف، وخاصة صندوق النقد الدولي، على تقديم المساعدة للبلدان التي في أمس الحاجة إلى التمويل، شريطة أن تتبع القواعد.
كانت قوة أميركا نابعة من سيطرتها على الأصوات في المؤسسات متعددة الأطراف، سواء بشكل مباشر أو من خلال نفوذها على دول مجموعة السبع. كما كانت قوتها الاقتصادية هائلة. الأهم من ذلك، أن معظم الدول كانت على ثقة في أن الولايات المتحدة لن تسيء استخدام قوتها لتعزيز مصالحها الوطنية، على الأقل ليس بشكل مفرط. ولم يكن لدى الولايات المتحدة أي مبرر لخيانة تلك الثقة؛ فلم تقترب أي دولة من إنتاجيتها الاقتصادية، بينما كان منافسها العسكري الوحيد، الاتحاد السوفيتي، خارج النظام التجاري العالمي إلى حد كبير.
أتاح التوسع في نظام التجارة والاستثمار القائم على القواعد الفرصة لخلق أسواق جديدة مربحة للشركات الأميركية. ولأن الولايات المتحدة كانت قادرة على التصرف بسخاء، فقد منحت بعض الدول إمكانية الوصول إلى أسواقها دون المطالبة بنفس المستوى من فرص الوصول إلى أسواق تلك الدول.
وفي حال أعرب صانعو السياسات في اقتصادات الأسواق الناشئة عن مخاوفهم بشأن الآثار المحتملة للتجارة الأكثر انفتاحا على بعض عمالهم، يسارع خبراء الاقتصاد إلى طمأنتهم بأن المكاسب طويلة الأجل تفوق في أهميتها أي ارتباك على المستوى المحلي. كل ما احتاجوا إلى القيام به هو إعادة توزيع مكاسب التجارة إلى المجموعات التي تخلفت عن الركب. وهذا ما اتضح لاحقا أن قوله أسهل من فعله. ومع ذلك، في هذه الديمقراطيات الناشئة، اعتُبرت الاحتجاجات من جانب الأطراف المهمشة كلفة مقبولة، بالنظر إلى الفوائد الإجمالية، وجرى احتواؤها بسهولة. في الواقع، أصبحت اقتصادات الأسواق الناشئة بارعة في الاستفادة من التقنيات الجديدة ووسائل النقل والاتصالات منخفضة التكلفة بحيث تمكنت من الاستحواذ على قطاعات واسعة من الصناعات التحويلية من البلدان الصناعية.
مرة أخرى، أثرت التجارة على العمال المحليين بشكل غير متكافئ، وبينما تحمل العمال الحاصلون على تعليم متوسط في البلدان المتقدمة -وخاصة المدن الصغيرة -وطأة الألم، ازدهر العمال الأعلى مهارة في صناعات قطاع الخدمات في المدن.
على عكس الأسواق الناشئة، التي لم تتعمق فيها جذور الديمقراطية بعد، كان من الصعب تجاهل السخط بين مجموعة متنامية من عمال هذه البلدان. في الواقع، استجاب صانعو السياسات في الاقتصادات المتقدمة لرد الفعل السلبي ضد التجارة بطريقتين. أولا، حاولوا فرض معايير العمل والبيئة الخاصة بهم على الدول الأخرى من خلال اتفاقيات التجارة والتمويل. وثانيا، ضغطوا من أجل تطبيق أكثر صرامة لقواعد حقوق الملكية الفكرية، التي كان معظمها مملوكا لشركات غربية.
في الواقع، لم يكن أي من النهجين فعالا بوجه خاص في إبطاء وتيرة فقدان الوظائف، لكن إسقاط النظام القديم سيتطلب حدوث شيء أكبر بكثير: صعود الصين. حيث نمت الصين على خلفية الصادرات الصناعية، على شاكلة اليابان ونمور شرق آسيا. ولكن، على عكس تلك البلدان، فهي تهدد الآن بالتنافس المباشر مع الغرب في كل من الخدمات والتكنولوجيات الرائدة.
في خضم سعيها لمقاومة الضغوط الخارجية، اعتمدت الصين معايير العمل والبيئة وصادرت الملكية الفكرية وفقا لاحتياجاتها الخاصة. وهي الآن قريبة بما فيه الكفاية من احتلال موقع الصدارة التكنولوجية في مجالات مثل الروبوتات والذكاء الاصطناعي بحيث يمكن لعلمائها أن يسدوا الفجوة في حالة حرمانها من الوصول إلى الموارد التي تستوردها الآن. وعلى نحو أكثر إثارة للقلق من منظور العالم المتقدم، فإن ازدهار قطاع التكنولوجيا في الصين يعزز من تفوقها العسكري. وعلى عكس الاتحاد السوفيتي، فإن الصين مندمجة بالكامل في نظام التجارة العالمي. الحق أن الفرضية المركزية للنظام التجاري القائم على القواعد -القائلة بأن نمو أي بلد يفيد بلدانا أخرى -آخذة في الانهيار. حيث يتضح للاقتصادات المتقدمة أن الهياكل التنظيمية والمعايير العليا التي اعتمدتها خلال نموها وضعتها الآن في وضع تنافسي غير مواتٍ في مواجهة بلدان أسواق ناشئة جرى تنظيمها بشكل مختلف وفقيرة نسبيا، ولكنها تتمتع بالكفاءة. كما تستاء هذه الدول من المحاولات الخارجية لفرض معايير لم تخترها ديمقراطيا، مثل رفع الحد الأدنى للأجور أو وقف استخدام الفحم، خاصة وأن الدول التي أصبحت غنية اليوم لم تتبن هذه المعايير أثناء تنميتها.
وعلى نفس القدر من الإشكالية، فقد عمدت الاقتصادات الناشئة، بما في ذلك الصين، إلى تأخير فتح أسواقها المحلية أمام العالم الصناعي. بينما تحرص الشركات في البلدان المتقدمة بشكل خاص على اكتساب حق الوصول غير المقيد إلى السوق الصينية الجذابة، وتضغط على حكوماتها لتأمين ذلك.
لكن الأمر الأكثر تعقيدا هو أنه مع تحدي الصين للولايات المتحدة اقتصاديا وعسكريا، لم تعد الدولة المهيمنة سابقا تنظر إلى نمو الصين باعتباره نعمة تامة. وبالتالي لم يعد لديها أي حافز يُذكر لتوجيه النظام الذي يتيح إمكانية ظهور منافس استراتيجي. فلا عجب أن هذا النظام آخذ في الانهيار.
إلى أين نتجه من هنا؟ من الواضح أنه يمكن إبطاء الصين، ولكن لا يمكن وقفها. بدلا من ذلك، يجب على الصين القوية أن تدرك مدى أهمية وجود قواعد جديدة، بل وأن تصبح راعية لهذه القواعد. لكي يحدث ذلك، يجب أن يكون لها دور في وضع القواعد.
بخلاف ذلك، قد ينقسم العالم إلى كتلتين أو أكثر من الأطراف المنفصلة والمرتابة فيما بينها، مما يوقف تدفقات الأفراد والمنتجات والتمويل التي تربطها اليوم. ولن يكون ذلك كارثيا على المستوى الاقتصادي فحسب؛ بل إنه سيعمق سوء التفاهم ويزيد احتمالية نشوب صراع عسكري.
لسوء الحظ، لا يمكن العودة بالزمن إلى الوراء. بمجرد كسر الثقة، فليس بالإمكان استعادتها بطريقة سحرية. لا يسعنا سوى أن نأمل في أن تتجنب الصين والولايات المتحدة فتح أي جبهات جديدة في حرب التجارة والتكنولوجيا، وأن يدركا الحاجة إلى المفاوضات. في أفضل الأحوال، سوف يصل الطرفان إلى اتفاق على إجراء تصحيحات ثنائية مؤقتة. وبعد ذلك، ستجتمع جميع الدول الكبرى للتفاوض حول نظام عالمي جديد يستوعب العديد من القوى أو التحالفات بدلا من الهيمنة المنفردة، مع وجود قواعد تضمن تصرف كل طرف بمسؤولية -بغض النظر عن نظامه السياسي أو الاقتصادي أو حالته التنموية.
في المرة السابقة، تطلب الأمر كسادا كبيرا، وحربا عالمية، وقوة عظمى لحمل العالم على إدراك أهمية التعامل بحكمة. فهل تكون هذه المرة مختلفة؟
راغورام راجان محافظ بنك الاحتياطي الهندي في الفترة من 2013 إلى 2016، وأستاذ التمويل في كلية بوث لإدارة الأعمال بجامعة شيكاجو ومؤلف كتاب «الركن الثالث: كيف تتخلى الأسواق والدولة عن المجتمع».