مازن الزيدي
ما ان وطئت أقدام رئيس الوزراء ارض مدينة خيفي الصينية حتى اشتغلت ماكنة التشكيك واثارة الغبار في وجه زيارة يراد لها ان تكون مفصلية للعراق وللكابينة الوزارية الحالية.
ورغم ان تحضيرات الزيارة لدى الجانبين استغرقت عدة اشهر بهدف ان تكون مثمرة وذات نتائج حقيقية ملموسة، الا ان سهام التشكيك انصبّت مبكّراً على الوفد الكبير من كل حدبّ وصوب حتى من قبل اصحاب الاختصاص والاطلاع ممن يفترض بهم توضيح حجم الفوائد الكامنة وأهمية الانفتاح نحو الشرق والصين تحديداً؛ التي باتت تعرف بأنها مستقبل الاقتصاد العالمي خلال العقود القادمة.
وللمفارقة فإن موجة التشكيك هذه لم نسمعها ولم نقرأ منها شيئاً عندما استبق عبدالمهدي زيارته الى الصين بعدة اشهر؛ بإبرام اتفاقية «مشروع الجنوب المتكامل» مع عملاق النفط الاميركي اكسون موبيل والتي قدرت بنحو ٥٣ مليار دولار لمدة ٣٠ عاماً.
لم نسمع الخشية، رغم تفهمها، من ارتهان النفط مع شركة اميركية أثبتت التجربة عدم امتلاكها الجدية والحرص اللازمين للنهوض بواقع صناعتنا النفطية عندما تركت البصرة وانتقلت الى اقليم كردستان خلافاً لارادة الحكومة الاتحادية، وعندما تلوح بسحب خبرائها كلما حدث خرق امني يطال السفارة الاميركية!
وقتها قيل ان صفقة اكسون موبيل، التي يرأسها وزير الخارجية الاميركي السابق ريكس تيلرسون، كانت ثمناً لاعفاء العراق من العقوبات المفروضة على المتعاملين مع ايران، وارضاءً لادارة ترامب جراء تعاقد حكومة عبدالمهدي مع شركة سيمنس الالمانية لتطوير البنى التحتية لشبكة الكهرباء الوطنية.
لقد اريد لصفقة اكسون موبيل ان تكون تذكرة لعبدالمهدي للقاء الذي تأجل كثيرا مع ترامب. كان التفاؤل يسود اوساط رئيس الحكومة بان تجري الزيارة في وقت قريب بعد ابرام الصفقة العملاقة التي تستهوي ترامب.
لكن شيئا لم يتغير في علاقة عبدالمهدي بواشنطن، فالصفقة تعثرت بعد بضعة اسابيع قليلة من ابرامها، واللقاء المرتقب مع ترامب لم يضرب موعده حتى ولو على هامش اجتماعات الجمعية العمومية للامم المتحدة.
وهذا ما يفسّر اختيار عبدالمهدي للذهاب شرقاً نحو الصين في موعد انعقاد اجتماعات الامم المتحدة، التي يحضرها الرئيس برهم صالح؛ بعد ان نفض يده من الادارة الاميركية التي وضعت قائمة شروط «معروفة» لاستقباله.
يبدو واضحاً من مسار الاحداث ان سياسة التوازن الدولي التي اراد انتهاجها عبدالمهدي تواجه بصدود واضح من الجانب الاميركي الذي يرهن استجابته بمروحة من الطلبات الداخلية والاقليمية التي يصعب على رئيس الوزراء الاستجابة لها.
ويبدو ايضاً ان هذا السبب هو الذي دفع رئيس الوزراء للرمي بكامل ثقله باتجاه الصين المتطلعة لاكمال مشروعها من الشرق الى الغرب ضمن مبادرة «الحزام والطريق» التي تخلفت حكومة العبادي عن الحاق بها، واهملت الحكومة الحالية المشاركة في اعمال منتدى المبادرة الذي عقد في بكين في ابريل نيسان الماضي بحضور اكثر من ١٠٠ دولة، وشهدت انضمام ايطاليا كأول عضو في مجموعة السبعة للمبادرة.
حسناً فعل رئيس الوزراء بتلافي التقصير العراقي طيلة الاعوام الماضية والامتناع عن الانفتاح على الصين. وحسناً فعل بمغادرة التردد العراقي الطويل الذي كان ينتظر ايفاء واشنطن بالوعود والالتزامات التي تضمنتها «اتفاقية الاطار الستراتيجية» المبرمة عام ٢٠٠٨.
فطيلة الاعوام التي تلت ابرام الاتفاقية، ظلت العلاقة بين العراق واميركا حبيسة الرؤية الاميركية للمنطقة بوصفها بؤرة حروب وتوتر ومجال صراع جيوسياسي مع روسيا والصين وايران، لامجال للحديث فيه عن تنمية والازدهار الا لاقتصاد الحروب. حتى اللحظة لم تتضح طبيعة الاتفاقيات بين بغداد وبيجن، ولم يحسن فريق عبدالمهدي التسويق لأجنداتها اعلامياً وهو ما أبقاها في دائرة التشكيك والاهمال وحتى التشويش من خلال أخبار مفبركة اريد لها افشال الزيارة واحباط المواطن بالدرجة الاولى، وعدم التفاعل مع هكذا خطوة تاريخية بإمكانها اخراج العراق من دوامة الفشل الاقتصادي والتنموي الذي طال كثيراً. ما يدعو للتفاؤل بأهمية الانفتاح على الصين هو حجم الجدية التي تبذلها الشركات الصينية للدخول الى السوق العراقية. فقد اخبرني ممثل لاحد اكبر الشركات الصينية الحكومية تخصيص بيجن ١٠ مليارات دولار للاستثمار المباشر في مشاريع البنية التحتية في العراق من دون اية شروط مسبقة.
لكن ما يدعو للإحباط، حسب الصديق الصيني، هو عدم وجود تفهم حكومي عراقي لذلك، رغم ستة اشهر قضاها في العراق متنقلاً بين بغداد والبصرة وعدد من المحافظات الاخرى، ولقاءات اجراها مع عدد من الوزراء والمسؤولين.
ينتظر من رئيس الحكومة تعزيز الانفتاح نحو الشرق باتجاه الصين ومجموعة اسيان بوصفهمال المجال الحيوي لتحويل العراق الى جسر بين الشرق والغرب ووضعه في قلب مشروع طرق الحرير الذي يقدر حجم التبادل بين اعضائه ال١٥٠ اكثر من ٦ ترليونات دولار.
مطلع القرن العشرين خضع العراق للاحتلال البريطاني الذي سعى لاجهاض خط سكك برلين / البصرة؛ الذي كان مشروعا واعداً لاعادة رسم طرق التجارة العالمية، واليوم حان الوقت ليستعيد العراق مكانته التي كان يحتلها على مسار طريق الحرير.